أم عدنان رجف.. رجف
يامن نوباني
سألتُ الصحفي محمود اللوح: أين كانت 'أم عدنان' ذاهبة حين التقطتَ صورتها وسط المياه والبرد الغزيرين؟ أجاب: هاربة من خيمتها إلى بيت ابنها المكون من غرفة بلا سقف!
يضيف اللوح، يعيش ابنها وحفيدها مع 15 طفلا في بيت من غرفتين، غرفة مرفوعة على أربعة أعمدة خشبية ومسقوفة بصفائح حديدية 'ألواح زينكو'، ونوافذ مغطاة بشراشف وأغطية بالية، والأخرى بلا سقف ولا نوافذ، إضافة لخيمة أمام البيت كتوسعة، بينما تعيش أم عدنان في خيمة وحيدة، بطريقة حياة أقل من بسيطة. حياة تعود إلى زمن الكهوف والمُغر، زمن فتات الخبز وزيت الزيتون وحده، حياة فيها الماء والنار الدلالة الوحيدة على أنها حياة وليست موت.
أم عدنان الخمايسة (83 عاما) من منطقة المغراقة- وادي غزة، تتقاسم الهرم والعجز مع زوجها أبو عدنان الذي يقيم خيمته قرب خيمتها، تحوي بضع طناجر بائسة، طحينا وشاي.
اعتادت أم عدنان في حالات الخطر الذهاب لبيت ابنها، المليء بالبؤس والفقر، فكان لا بد أن تقطع وسط المياه المتجمعة بقدمين عاريتين، في ذروة عاصفة 'هدى'، وأن تمشي مسافة 500 متر، هرباً من الخطر إلى الخطر، بحثاً عن لحظة دفء لدى ابنها وحفيدها وأولادهما.
شكّلت صورة أم عدنان وهي تحمل على ظهرها متاعها البسيط وعصا تتوكأ عليها، وسط بركة كبيرة من المياه المتجمعة في منطقة المغراقة، ثورة سخط على كل شيء في مواقع التواصل الاجتماعي، على البرد الذي لم يرحم كهولتها، وعلى الأوضاع المتردية للبنية التحتية في غزة، خاصة بعد العدوان الإسرائيلي الأخير، وتأخر إعادة الإعمار، وفضّل الأغلبية الدعاء لغزة وأهلها بالرحمة واللطف بأوضاعهم.
ولم يوقف التعاطف 'الفيسبوكي' محنة أم عدنان، لم يُدفئ قدميها وقلبها شيء، سألها محمود اللوح: أم عدنان بردانة؟ ردت: لا مش برد، رجف.. رجف!
على كثرتها، وعلوها، لم تصل نداءات الاستغاثة، فتولى محمود وأصدقاؤه الذين شكلوا مجموعة طوارئ، قيادة حملة خيرية لجمع المونة والأغطية للمتضررين وأهل الخيام في المغراقة ووادي غزة، وفي رحلة عودتهم من زيارة متضررين آخرين وجدوا أم عدنان عائدة لخيمتها، وسألوها عن السبب: فأجابت أن المنزل لا يتسع لهم جميعا، وأنها ذهبت لتشعر ببعض الطمأنينة فقط.
ديب أبو القمصان، أحد الذين وصلوا لإغاثة أم عدنان، يقول: حين قدمنا لهم المعلبات سألونا: ما هذه الأشياء؟ كيف تؤكل؟. ويتابع: لا يستخدمون الأجهزة الكهربائية ولا يعرفونها، عصب حياتهم النار، يقومون بكل أشيائهم على النار.
زوجها أبو عدنان، يجلس بقربها حافي القدمين، بشعره الطويل الغزير، وملابسه الرثة، يقول: أحب أم عدنان وأخاف عليها، ولا نريد سوى عيشة كريمة، بيتا يؤوينا من البرد الشديد بدلاً عن الخيمة.
إنها الخيمة، الخيمة التي رافقت الفلسطيني عقودا طويلة، بنكبات مختلفة النكهة، نكهة القتل والتشريد في العام 1948، ونكهة النزوح عام 1967، نكهة عقاب المطاردين في انتفاضة الحجارة 1987، ونكهة الشهداء في انتفاضة الأقصى عام 2000.. خيام ناهز عمرها الـ70 عاما في مخيمات اللجوء في الأردن ولبنان وسوريا، لم تزل أعمدتها تنتظر خلع أوتادها، موشحة بمفاتيح بيوت أصحابها، حنينا ليافا وحيفا وعكا والساحل الشهي. إنها رحلة الشعب الفلسطيني، رحلة برد طويل وقاسٍ لم ينتهِ بعد.