'خيل تايهة' في الرباط: بين النبوءة والإنجاز
نداء عوينه
'المنافسة اشتدت بعد هذا العرض المدهش.. إيهاب زاهدة يسير بخطى ثابتة ليصنع فرجة مسرحية مدهشة'، هكذا كان رد الفعل الأول على عرض مسرحية 'خيل تايهة'، في الدورة السابعة لمهرجان المسرح العربي المعقود في مدينة الرباط المغربية.
ففي المسرحية، يرى المشاهد قصة خيل، الفتاة البدوية الملعونة بنبوءة العرافة القودرية بأن لا تكمل الثلاثين من العمر، وقصة أمها تايهة ربيبة سائس الخيل تتداخلان وتتبادلان في سلسلة من مشاهد 'الفلاش باك' المتتالية بأسلوب قطع سينمائي تام بين المشهد والآخر، ليخرج بأحجية يحلها مع ذاته، ومع واقعه المجتمعي المتأرجح بين الحداثة والإرادة وتمكين الفرد وبين الخرافة الشعبية التي ما زالت تدس السم في عقلياتنا.
وإذ صعّب تحوّل الشخصيات في المسرحية وثبات المشهدية والإضاءة على الخشبة مهمة فهم النص على المشاهد، فقد دفعه أيضا للتفكير فيما وراء النص وما بعد المسرحية؛ حيث يخرج بأحجية عليه تركيبها ليتجاوز الفهم المسطح للحكاية، إلى فهم المعتقد الشعبي والدور الاستنهاضي الثوري للأفراد.
فحين ألقت تايهة بالحبل السري المتبقي من ولادة خيل على سطح المدرسة عملا بالخرافة القائلة إن المرء يتعلق بمكان دفن حبله السري، كانت دلالة للتمكين وإمكانية تطور الفرد، التي نراها أيضا في جملة قالها هوزان: 'عمر المتعلم أطول من عمر الأمي،' فأتمت خيل دراستها في المحيسن حيث وقعت في حب معلمها محمد الفلسطيني، وواصلتها في الشام، ثم التقت بحبيبها –معلمها عند مقام العلامة محيي الدين بن عربي، وهذه دلالة أخرى على الاستنهاض والخروج من قوقعة الأسطورة، فقد كسرت النبوءة ودخلت خيل عامها الحادي والثلاثين عند هذا المقام بلقاء الفلسطيني محمد.
وقال الناقد المسرحي التونسي محمد العوني إن المخرج استخدم 'تقنية بريختية تدفع المشاهد للتفكير؛ قطع للحدث حتى ينتبه المشاهد للفعل المسرحي، فكل هذه السيرة وهذا الحبل الممدود أفقيا، جاء بطريقة سرد جعلته عميقا قي الأرض، ضاربا في السماء السابعة، يوصل لنا كل تفاصيل هذا التيه والرعب الذي سكن إلى الصوت الواحد وإلى اللعب حول محور الشخصية المركزية'.
كل ذلك، ولم يكن للبكائيات مكان في العمل، فكما قال المسرحي عبد الفتاح الديوري، جاءت القضية بمعرض النكتة وليس النحيب، فكانت هناك طريقة خاصة لإبراز القضية الفلسطينية والعربية الحاضرة من الأول إلى الآخر في النص والشخوص والأداء والغناء، والدلالات التي تقتضي منا قراءة أعمق في الموروث العربي الشامي، وفي تفاصيل القضية.
خلال أربعة عشر شهرا من العمل، فكك إيهاب زاهدة النص لعوامله الأولية، فككه تماما، وأعاد بناءه فعلا مسرحيا جعلنا نتأرجح بين الحكايات وكأننا نشاركه في بناء الحَدَث، محققًا بدوره حالة الاتصال الجمالي بين المتلقي والخشبة، فخَيل لا تغني عَبَثًا بل من أجل خلق فضاء رحب يسعنا لنشارك بأحاسيسنا و نبقى على اتصال تام مع خيل، فالأدوات التي استخدمها إيهاب حققت مرادها رغم بساطتها، لأنها انصهرت بشكل تام داخل درب النور الذي رسم بريشة الدهشة.
وإن كان نص الكاتب عدنان العودة هو الخامة الجميلة التي بني عليها العمل، فالمسرحية هي نص المخرج الذي أخصب على الخشبة فتصاعد بأداء الممثلين محمد الطيطي وياسمين همّار وحنين طربيه وريم تلحمي ورائد الشيوخي، وتجلى بغنى ألحان سعيد مراد. لم تحتمل المسرحية أية ثرثرة حركية أو حشو في النص؛ كان عملا مكثفا ومركزا على إظهار التناقض الفرداني وإبراز التناحر المجتمعي وصراع النبوءة مع الإرادة الحرة، فخيل ذات الوجه الحجر والصوت الخدر، أكملت الثلاثين من عمرها وهزمت لعنة الخرافة ولم تكتفِ.