من هيرودوس حتى هواة كرة القدم.. الصراع مستمر
جميل ضبابات
قاعة المحكمة الرومانية فارغة، وليس هناك قضاة رومان بلباسهم المهيب، لكن بعد حوالي 1700 سنة على انتهاء تلك الحقبة، ما زال الصراع قائما فوق انقاض واحدة من أقوى الممالك التي حكمت هـذه الجبال وتحكمت في طرقها التجارية.
ليس في ساحة البازليكا، التي ضمت مركز الحكم الروماني في المدينة، سوى فتيين يتحاكمان على تمريرة حرة في لعبة كرة قدم، في نهار شتوي توضح شمسه الصارخة لمعان اعمدة الرخام التي تشهد على نهاية تلك الحقبة.
واذا ما ركل فتى من الفتيين الذين يسيطران علي الساحة وحدهما الكرة باتجاه الآخر، فإن ضربة قوية قد تدفعها من المنطقة (ب) التي تقع تحت سيطرة رسمية فلسطينية، الى المنطقة (ج) التي تقع فيها قاعة المحكمة وتقع تحت السيطرة الاسرائيلية الكاملة حسب اتفاقات اوسلو التي حددت صلاحيات الطرفين فوق هذه البقعة من الارض التي قامت فوقها ممالك على انقاض ممالك منذ فجر تاريخ هـذه البلاد.
وساحة البازليكا هي أشهر الساحات الاثرية في البلدة الواقعة على قمة جبل منعزل عن الجبال المحيطة، وهي ساحة العرش الملكي عند الرومان.
من هنا كان هيرودس الذي حكم سبسطية يدير شؤون هذه المنطقة.
وسبسطية اليوم البلدة الفلسطينية التي تبعد كيلومترات معدودة عن مدينة نابلس، واحدة من اكثر المناطق الفلسطينية التي تعكس عقدة الصراع القائم على الارض.
واقفين الى انصاف اعمدة ملقاة على الارض منذ نحو عقدين، يوضح الفتيان اللاعبان الوحيدان في مقر الحاكم هيرودس حدود مساحة كل منهما، الا ان اي منهما قد ينتقل اذا حرك قدمة من منطقة تحت ولاية دولة فلسطين، الى منطقة تحت احتلال اسرائيل.
من على بعد تبدو سبسطية التي يحفها الاخضر فوق الجبال تأخذ الالباب. من داخلها تظهر البلدة التي شهدت صراعات على مدى آلاف السنين واحة لأعمدة الرومان المزروعة بثبات في الارض وتحيط بمسارحهم التي ما زالت قائمة حتى الآن.
بالنسبة لمدير المواقع الاثرية في شمال الضفة الغربية ضرغام الفارس، سبسطية وجهة سياحية متميزة من حيث المزيج الحضاري والتقاليد الدينية.
واقفا الى جانب اعمدة مصفوفة في محيط المحكمة، مادا يده على استقامتها يقول 'بلغت سبسطية أوج عظمتها من ناحية المساحة والعمارة وعدد السكان في الفترة الرومانية، وتحديدا عام 200م عندما منح الامبراطور سيبتيموس سيفيروس سبسطية مرتبة كولونيا. حيث ضمت جميع العناصر المعمارية لأي مدينة رومانية نموذجية، ببواباتها وأبراجها ومعابدها وشارع الأعمدة بطول 800 متر (على جانبيه حوالي 600 عمود) والفورم والبازليكا والملعب والمسرح...'.
لا يسيطر الفلسطينيون الا على جزء قليل من البلدة، بمبانيها الحديثة، اما تلك المباني التي شكلت المنظومة العمرانية الهيرودية وغيرها من بقايا قصور الحكام السابقين فكلها تقع تحت سلطة الاحتلال الاسرائيلي.
عبر ممرات ترابية شقت بين بساتين اللوز والمشمش وحقول الزيتون، يمكن للمستطلعين القادمين الى البلدة التنقل من مركز حكم دولة الى مركز حكم دولة اخرى.
صعودا عبر تلة صغيرة ينتقل سائحان من ساحة البازليكا مركز حكم هيرودوس الى قصر الملك عمري في منطقة الاكروبوليس وهو الجزء الاعلى المحصن من المدينة.
اما في منتصف الطريق، فليس هناك سوى' مملكة' احمد سخا، الفلسطيني الستيني الذي يبيع الكؤوس الجبصين والاساور والتصويرات وزيت الزيتون للسياح.
بنى سخا قبل سنوات غرفة من القصدير ليعرض امامها المقتنيات التي يصنعها، لكن ما لبث ان استقر في ارضه، التي تقود الى كنيسة يحيى المعمدان الذي تعتقد الروايات ان رأسه وجد مقطوعا في مكانها، حتى اصدرت القوة المحتلة قرارا بهدمها.
ممعنا بطريق الكنسية الترابية يقول سخا، ان' الإسرائيليين يلاحقونه حتى في احلامه'.
وبين فترة واخرى يطلبون منه هدم الغرفة الصغيرة.
والصراع فوق هذا التراب ليس سوى نموذج لما كرسته الصراعات القديمة قدم الابنية المقامة هنا. فأجيال مختلفة من البنائين اقاموا المدرجات والقصور والكنس وجلبت لهم الدول هـذه الاعمدة من وراء البحار.
مشيرا الى جدار متين من قصر عمري الذي احاطته سلطة الآثار الاسرائيلية بسياج يقول الفارس' كل دولة بنت هنا نظامها المعماري الخاص'.
حقا ان سبسطية تشهد على واحدة من اهم وقائع التاريخ القديم، فالوقوف على اعلى قمة من قصر عمري يظهر التباين في ابنية هذه البلاد.
والهبوط من القصر الذي تظل اليه ظلال اشجار الزيتون وتغطي اطرافه من كل النواحي، يظهر الى اي مدى يمكن للدولة المحتلة، احتلال التاريخ والحاضر.
يقول الفارس' انهم يسيطرون على معظم المناطق الاثرية. يريدون كل شيء'.
لم تترك السلطات الاسرائيلية مجالا للفلسطينيين لإجراء حفريات اثرية أو لتأهيل المواقع الأثرية سياحيا الا في مساحات محدودة. لكن الإسرائيليين ذاتهم يديرون الصراع فوق هذه المنطقة بنفس الاسلوب الذي يديرون فيه حروبهم.
انه منطق القوة في السيطرة على كل شيء.
اما السياح القادمون الى البلدة عبر شركات السياحية الاسرائيلية، فغالبا ما يصلون مشبعين بروايات اسرائيلية، كما يقول واحد من احد شهود العيان على الصراع.
انه حافظ كايد، صاحب واحد من المطاعم المقامة على الطرف الجنوبي من البازليكا. بالنسبة لحافظ التي نشأ وترعرع وسط السياح معاونا لوالده المتوفى، فإن أوجه الصراع على الارض قائمة حتى في روايات السياح.
مشيرا الى فضاء البلدة التي تلمع انحدارات الجبال المحيطة بها تحت أشعة الشمس يقول حافظ 'يأتون برواية إسرائيلية، ويعودون بأخرى. عندما يصلون يجدون الجذور الكنعانية في كل شيء هنا. (...) نقدم لهم الطعام الفلسطيني مستعينين بشبان يلبسون القنباز الفلسطيني. نحدثهم كل شيء بلسان الفلسطيني'.
كنائس ومساجد وقاعات محاكم وقصور وابراج مراقبة، وبقايا اسواق رومانية، وطرق محاربين وتجار، والكثير من الروايات حول سبسطية، وكل هذا الذي كان يقع على طريق المحاربين والتجار ليس اليوم الا وجه اخر لمسرح النزاع الفلسطيني- الاسرائيلي.
حول مسرح الرومان، الذي تشكل من نصف دائرة كبيرة حولها مقاعد الجلوس، يقع مسرح النزاع الحديث: مناطق ألف باء جيم حسب اتفاقات اوسلو.