صراع الهوية في رواية "ترانيم الغواية" لليلى الأطرش
روز شوملي مصلح
"ترانيم الغواية" رواية تضيف وتُجدّد كما هو الحال في كل رواية من روايات ليلى الأطرش. فبعد رواياتها، "وتشرق غرباً"، "ليلتان.. وظل امراة"، "امرأة للفصول الخمسة"، "صهيل المسافات"، "مرافئ الوهم"، و"رغبات ذاك الخريف"، تأتي رواية ليلى الأطرش "ترانيم الغواية" لتبحث أكثر من أي وقت مضى عن الجديد والمختلف، والمسكوت عنه.
"ترانيم الغواية" الصادرة عن منشورات ضفاف، 2014، اتخذت من القدس مسرحاً لأحداثها، وحاولت أن تلمّ بالعديد من الأمور التي أثرت على الناس والمدينة. قضايا كثيرة تطرحها الرواية لتبين وضع القدس في الفترة منذ نهاية الخلافة العثمانية حتى نهاية الثمانينيات من القرن العشرين، منها قضايا مرتبطة بالفقر، والجهل، والهجرة، ونقل ملكية الأراضي، ومواقف الدول المستعمرة، والتنافس بين الأحزاب وخلاف العائلات، والعلاقة ما بين الطوائف، ووضع الكنيسة الأرثوذكسية في ذلك الوقت، واستخدمت لذلك مراجع هامة عن حياة الناس في تلك المرحلة، مستعينة بالوثائق، والتأريخ الشفوي، لجمع حكايات أربعة أجيال لعائلة مقدسية (أبو نجمة)، إضافة لحكاية الخوري متري الحداد زوج العمة "ميلادة أبو نجمة" الراوية الأساسية في الرواية.
ولصعوبة الاحاطة بكل هذه الموضوعات، ولغرض هذه الزاوية، سوف نركز على صراع الهوية في الرواية، وبالتحديد، الهوية القومية والهوية الدينية من خلال تجربة الخوري متري الحداد، وصراعه من أجل عروبة الكنيسة الأرثوذكسية.
تختار الكاتبة أسلوباً مبتكراً لتكتشف شخصية الخوري متري الحداد، وذلك من خلال رسائل يبعثها الخوري لابنه، حيث يخصص لكل رسالة موضوعاً بعينه، علّه يعوض ابنه عن بعده عنه، ويجسر المسافة بينهما. وفي واحدة من رسائله يتحدث عن الصراع الذي عاشه كخوري من جهة، وكإنسان مقدسي عربي من جهة أخرى، حين اكتشف السياسة التمييزية التي تمارسها اليونان ضد المسيحيين العرب، وكيف حرِّم عليهم الوصول الى المراتب العليا في الكهنوت، رغم معرفتهم بأن العرب هم أصل الكنيسة، ويذكرهم بذلك حين يقول: "الله هو من اختار بلادنا، وليس اليونان، موطناً للمسيح..."
وفي رسالة أخرى لابنه "رفيق"، يكشف الخوري الحداد سبب تسمية ابنه بهذا الاسم، فيقول له: "سميتك رفيقاً لتكون رفيقياً، وتيمناً بصديقي البطل "رفيق رزق سلوم" خوري من حمص الشام." ورزق سلوم هو أحد الشهداء الذين شنقهم جمال باشا السفاح مع معلمه الشيخ عبد الحميد الزهراوي، في ساحة المرجة في دمشق. تأثر الخوري الحداد بشخصية "رفيق"، وأعجب بالتزامه بقضايا الوطن، وإصراره على البقاء في الوطن وهو يمر في فترة عصيبة. يتأثر الخوري الحداد بما قاله رفيق، حد أنه يوشك على ترك الكهنوت، لولا أنه التقى الشيخ الزهراوي، الذي أقنعه بالبقاء في الكهنوت: "للجهاد أبواب كثيرة، أكبرها تحرير النفس من خوفها، وفي الجهاد تتوزع المواقع وتختلف الأدوار..." وفي مكان آخر، يشجعه الشيخ الزهراوي على البقاء في الكهنوت وبيت المقدس لأن وجوده يفيد القضية الوطنية أكثر ويحثه أن يعود إلى مدينته قائلاً: " بشِّر بالحرية والانعتاق من الضيم والعبودية".
منذ لقاء "رفيق" والشيخ "الزهراوي"، يبدأ التطور في شخصية الخوري متري الحداد بعلاقته مع المناضلين في سوريا، وبدأ يفهم كيف يمارس الظلم على المسيحيين العرب من قبل اليونان. وفي رسائله لولده، يتحدث عن انتفاضة رجالات الطائفة العرب وكبار الإكليروس العرب من أجل تعريب الكنيسة. ومن وقت لآخر، كان يذكّرهم بأن المسيح أُرسل الى فلسطين وليس إلى اليونان، ويُذكّر بالقبائل المسيحية العربية التي كانت قبل الاسلام. ويطالب بأن تكون الصلاة باللغة العربية، وبحق العرب في إدارة كنيستهم.
إضافة لظلم اليونان، تفتحت عينا الخوري الحداد على ظلم آخر هو وعد بلفور، لذلك نراه في رسالته لولده، يؤكد التزامه بالقضية الوطنية والعروبة وضرورة النضال ضد الانتداب، ووعد بلفور.
أمام هذه المواقف، يلجأ البطريرك اليوناني الى شق الصف العربي حين يبدأ بتحريض المسيحيين على المسلمين قائلاً: "المسلمون عرب..أنتم مسيحيون، والمسلمون لا يعترفون بعروبتكم.. ولأنكم أقلية، تخشونهم وتتمسحون بهم."
وتبين الرواية خوف اليونان والأتراك من وجود مظلة جامعة للمسيحيين العرب والمسلمين العرب. ويفسر الخوري حداد سبب هذا الخوف لابنه، بأن اليونان والأتراك اعتبروا المطالبة بتعريب الكنيسة الأرثوذكسية دعوة هدامة من قبل علمانيين كفرة، وأن "الإيمان بأن القومية تسبق الديانة، أشد خطراً على وجود اليونان وسيطرتهم" .
ومع هبة المسيحيين ضد التحالف اليوناني التركي، لم يتردد المسلمون العرب في دعم المسيحيين العرب في مواقفهم المحقة، حيث صرح الشيخ كامل الحسيني مفتي الديار في ذلك الوقت بأن "ما حدث في القدس ليس قضية نصارى، بل قضية وطن"
محاولة الفسخ بين المسيحيين العرب والمسلمين العرب لم تكن المرة الأولى ولن تكون الأخيرة، وهي تحدث الآن في أكثر من مكان، فهل نحن مدركون لما يحدث، وهل نبحث عما يجمعنا، وننأى عمّا يفرقنا؟!