سامر المحروم: اختطفه الجلاد ربع قرن وعاد منتصرا
جنين- الف- عبد الباسط خلف: أعاد الأسير المحرر سامر عصام المحروم تنفيذ المشهد الأخير قبيل اعتقاله في الخامس عشر من تشرين الثاني 1986، بعد ربع قرن. وقتها طلبت منه والدته إحضار كيس من الطحين لها، فتظاهر بالانشغال، وأخبرها بأنه سيذهب للدكان لشراء ربطة من الخبز الجاهز، وسيعود لاحقاً لتنفيذه طلبها، لكنه توجه مع رفاقه إلى القدس لتنفيذ هجوم فدائي، وأمضى وراء القضبان 25 سنة.
يقول بصوت منهك، وبابتسامة تحتل تقاسيم وجهه: نفذت طلب أمي قبل أن أدخل البيت، وحملت معي كيس الطحين، وأول ما قمت به بعد وصولي إلى جنين زيارة قبر والدي، الذي توفي وأنا في السجن، ومنزل رفيق عمري حمزة حسن زايد، الذي أبعد إلى غزة، وقبلت أقدام أمي قبل أن تعانقني طويلاً.
أنطلق المحروم، الشاب الذي كان في التاسعة عشرة وقتها، من جنين باتجاه القدس، وودع رفاقه وشرب القهوة معهم في ساحة الكراجات، لتسرق قضبان السجن من عمره ربع قرن، وتنقل بين سجون: المسكوبية، وبئر السبع، وجنيد، وعسقلان، ونفحة، وجلبوع، وشطة، والرملة، والنقب، لتنفيذ أحكام المؤبدات المتراكمة.
وامتصت سجون الاحتلال رحيق شباب سامر، الذي أبصر النور في 24 نيسان 1966، وفرض عليه السجان الحرمان من الشمس والهواء، ولم يكمل سوى سنة يتمة من دراسة العلوم المصرفية في الأردن، وتناقص شعر رأسه، لكن اللحظة الأصعب التي عاشها، يوم اختطف الموت والده في أيار 1999، وقتها، مُني المحروم بخسارة فادحة، وتقطع قلبه، ولم تغادره الدموع.
يضيف: طوال 25 سنة، لم ألتق بأهلي غير 70 ساعة، من وراء القضبان والزجاج، وكانت الزيارات تفتح جروحي أكثر، وتذكرني بالحرمان من الحرية. وفي الليلة الأولى التي نمت فيها ساعة واحدة، استيقظت على أمي وهي تشم رائحتي، وتلاصقني، وكأنها تعيش حلماً، ولا تصدق ما تشاهده بعينها.
غيّر السجان اسم سامر إلى رقم اعتقالي( 1005648)، وهو كما يقول جمع بين النكبة والعدوان الثلاثي على مصر، مثلما كان رقمه في صفقة التبادل 148، وكأن النكبة ترفض أن تغادره حتى في لحظة حريته.
يتذكر: اختطف منا السجان الشمس، وناضلنا لأجل مشاهدتها، ولا أنسى ما قاله ديفيد ميمون، الذي كان مسؤولاً عن قلاع السجن، حين قال لنا متهكماً: سأرسم لكم الشمس على جدران زنازينكم!
يشبه المحروم السجن بالمرأة التقليدية، فهي تتحول كما الأسير إلى رقم، ويُحكم عليها ارتداء زي معين، ويطلب منها أخذ أذن في كل شيء تريد فعله من زوجها.
خط سامر كتاباً من خلف القضبان، واختار له عنوان دوائر الألم، ليوثق تجربة اعتقاله، فيما يستعد لإكمال شطر روايته الثاني" لا ليس حلماً"، ويتذكر دوماً مواقف مضحكة شهقا ورفاق قيده رغم قسوة السجان. فيضحك قبل أن يقص حكاية طريفة:" ذات مرة كنا نتوقع اعتداء السجانين علينا، وعندها كنا نتخذ الاحتياطات، فنُدخل المرضى إلى الحمامات، ونضع على أبوابها بطانيات مبتلة بالماء، لمنع وصول الغاز إليهم، وقد اختار رفيق لنا أن يدخل مع المرضى، لكنه غير رأيه أثناء موجة رشنا بالغاز، ففتح الأبواب، وتسبب باختناق المرضى، وسقط هو على الأرض، بعد أن كان يدعي أنه الأسد والقوي. فانفجرنا من الضحك رغم قمع السجان.
حفظت أم سامر الطبق المحبب له، فأعددت له يوم معانقته للحرية، الكوسا المخشي وصواني الكفتة، لكن صحته المنهكة من إضراب طويل عن الطعام، جعلته لا يستطيع تنفيذ حلمه بالعودة لتناول طبق أمه، وفُرضت عليه السوائل.ينهي:"أخطط للعودة إلى الحياة، ولتأسيس أسرة وبناء منزل، ولتعويض أمي وأهلي عن الغياب الذي عاشوه، والمعاناة التي تجرعوا علقمها، منذ اعتقالي.