حكايات برسم الدموع .. بقلم د.مازن صافي
الحكاية الأولى:
بعد أن امتد زواجه من "ليلى" لأكثر من عشرة أعوام، وفي طريق الرحلة الأخيرة من قريته الواقعة في الشمال الفلسطيني وتحت شجرة زيتون محترقة، جاءها المخاض،وتجمعت النسوة حولها، وأنجبت ولداً جميلاً، ولم يحتار الأب "مرعي" في تسمية ابنه الأول والذي اشتاق لقدومه منذ سنوات طويلة، وعزم " في بداية حمل ليلى " على أن يدعو كل القرية وجيرانها إلى حفلة قدوم الابن البكر في مزرعته الممتدة في الشمال الفلسطيني والتي تقدر مساحتها بأكثر من خمسين دونماً، وفيها كل ما لذب وطاب من أنواع الفواكه، ولكن الحال اليوم تغير، ولم يعد يملك إلا الدعاء، لقد قرر أن يسميه "مخيم" .
الحكاية الثانية :
يدخل الصف الأول وتنادي مدرسة اللغة العربية " السورية " على التلاميذ، ويأتي دوره، وتتلعثم في نداء اسمه فتلفظه "مخيمر"، ولا يرد أحد، وتعيد النداء "مخيمر"، والصمت يخيم على التلاميذ، لا يوجد "مخيمر" يا "أبله"، وتتلعثم مرة أخرى وتقول: "يا أبنائي ألا يوجد أحد هنا من المخيم اسمه مخيمر، وفي الحقيقة لم تكمل لفظ "مخيمر" حتى يقف تلميذ جميل بعيون خضراء وبشرة قمحية ناعمة ويقول " أنا يا أبله "مخيم"، أنا مخيم مرعي.
وتتأكد الأبله "زينب" أن التلميذ اسمه "مخيم"، وتقرر الذهاب معه إلى بيته، لتتعرف على أهل المخيم .
الحكاية الثالثة :
تدخل الأبلة " زينب " بيتاً متواضعا لا تزيد مساحته عن خمسين متراً، معلق في داخله قطعة خشبية مرسوم عليها خارطة فلسطين، ويتدلي بجانبها مفتاح نحاسي كبير، وتفترش أرضية الغرفة الرسمية بقطع من السجاد المحلي والذي يحكي حكاية التراث، هكذا بدت انطباعاتها الأولى.
أهلا وسهلا أختي زينب، أنا " أم المخيم" اسمي زهوة، وابني مخيم يتحدث عنك دائما وعن محبتك للتلاميذ واستفادته الدائمة منك، ولقد اخبرني عن استغرابك من "اسمه"، وفي الحقيقة وباختصار كان اختيار اسمه انعكاسا لواقعنا ونحن في رحلتنا إلى هنا، إلى المخيم في سوريا ، ولقد أحببناكم قبل أن نلتقي بكم في هذه الظروف التي إن شاء الله "شدة وتزول"، ردت الأبلة "زينب" إن شاء الله .
وبدأت "زهوة" في تبادل الأحاديث مع صديقتها السورية الجديدة "زينب"، وقالت لها: إن روحنا معلقة هناك في بيوتنا التي سرقها الصهاينة، وفي أرواح الشهداء الذين ذبحوا أمامنا، وتلك الروح المتجذرة من آهات وحقوق شعبنا المنكوب ومأساتنا التي لا يمكنها أن تمر دون أن ننفذ وصايا الشهداء ولقد حرقوا " الملاعين" مستقبلنا ، قتلوا أطفال الجيران والشيوخ وهدموا مسجد القرية، وما يحزنني "وبدأت تتحدث بحرقة وبكاء" صديقاتي اللواتي تم قتلهن وهن حوامل، إن الدماء كانت تحمل رائحة شكوى الظلم إلى الله، تغريبتنا اليوم لا يفهمها إلا نحن أصحاب الجرح ومرارة التهجير القسري وطردنا من أرضنا وبلادنا وحياتنا، لقد سافرنا ليال طويلة بين الجوع والعطش والخوف والرعب وطاردونا وقتلوا منا الكثير، مشاهد لا تنسى ولن ننساها وسيحفظها مخيم وكل أبناء المخيم جيل بعد جيل، سنحكي لهم عن قامات أجدادنا العظيمة، وعن حياتنا التي انتهكتها عصابات القتل الصهيوني الذين جاؤوا بملامح مختلفة من بلاد غريبة وبعيدة، صدقيني هويتنا مجروحة لكن المفتاح كما ترين أختي زينب لا زال معلقا هنا، شاهدا على العودة القريبة، والبركة في كل النشامى.
وبعد تنهيدة طويلة، أكملت زهوة حديثها، قبل يومين جاءت مُدرسة الرسم، وطلبت مني أن أساعد "مخيم" في رسم صورة الهجرة إلى هنا، وصدقيني أغرقنا الورقة بالدموع ونحن نتذكر ونرسم جموع المشردين ومطاردة الصهاينة لهم، رسمنا وجوها كانت نابضة بالحياة قبل أن تستشهد في المجزرة الكبرى، ورسمنا أشخاصا نعرفهم نجوا من الموت ولكنهم ماتوا من القهر قبل الوصول إلى هنا، ومنهم من عاد ليقاتل العصابات مرة أخرى ولم يعودوا إلى اليوم، حياتنا هنا هشة وأصبح لكل منا بطاقة جديدة تحمل رقم لاجيء، كنا نعيش في هدوء وفي فسحة من الحياة، واليوم أصبحنا لاجئين، شدة وبتزول مثل ما بيقول أبو المخيم .
وغادرت المُدرسة "زينب" بيت صديقتها الجديدة وهي تردد ودموعها تملأ عينيها : "شدة وبتزول إن شاء الله " .