الصعود إلى باب السماء
جميل ضبابات
في مكان عال من المدينة، يقف رجل على صخرة، وحوله يتحلق رجال كثيرون يتلون من أسفار التوراة... كان الرجل الذي بلحية شهباء وصوت جهوري يردد لغة غريبة، لا هي عبرية مألوفة، ولا هي عربية سائدة هنا في الارض الفلسطينية، ولا من اللغات الشائعة في العالم.
لم يكن ذلك الواقف الا إمام الطائفة السامرية الموسوية الذي وصل للتو ماشيا امام العشرات الى قمة جبل جرزيم جنوب المدينة، والذي يعتقد في الموروث الديني الموسوي، ان مياه طوفان زمن النبي نوح التي غمرت الارض لم تصله لقداسته.
وقبل طلوع الشمس لتأدية الحج الذي يعني انتهاء عيد الفسح الذي يمثل هيئة خروج بني اسرائيل من مصر قبل آلاف السنين، كان كل اولئك الذي يعتقدون انهم السلاسة الحقيقية لبني اسرائيل منخرطين في أداء فرائض هذا الفجر.
قبل ذلك بساعة كانت القنابيز البيضاء الناعمة التي تلوحها ريح الفجر الخفيفة، والاحذية الخفيفة التي بالكاد يسمع دبيبها فوق ممر جبلي مرصوف بالحجارة القاسية ليست الا ادوات لإتمام المسيرة التي يقوم بها عشرات الرجال من حاملي العصي الطويلة في الوصول الى باب السماء.
بدأ الصعود أمام كبار السن، مثل مهمة يعاندون فيها الانحدار الصخري. وصلوا الى الاعلى لاهثي الانفس.
كان هذا فجر اليوم، التاسع من ايار لعام ، الموافق الحادي والعشرين من الشهر الاول من العام السامري ، الذي شرع بتدوينه منذ ما يعتقد بنو اسرائيل انه صعودهم الاول لهذا العلو على ارتفاع مترا عن سطح البحر المتوسط الذي ظهر شاطئه يتلألأ بوضوح من هنا.
إنها قمة جرزيم قبلة الطائفة السامرية، ومكان ما يتعقدون ان النبي ابراهيم، ضحى بابنه اسحق.
وأدى السامريون فجر اليوم شعائر واحد من ثلاث رحل حج يقوم بها كل عام سامري الى الجبل. ويؤمن السامريون بالأسفار الخمسة الاولى من التوراة، ويعتقدون ان الهيكل بني هنا على خلاف الادعاء الصهيوني الذي يشير الى القدس كمكان لهيكل سليمان.
والصعود الى هذا العلو وتقديسه واحد من اركان الايمان السامرية. ويطلق على جرزيم جبل الطور تيمنا بطور سيناء.
سائرين في خطى وئيدة عبر ممر سور جانبيه بحجارة كبيرة، ورصفت ارضيته عبر الازمة بحجارة قاسية، صعد السامريون الذي يسكن جزء منهم في نابلس، والآخر في حولون جنوب تل ابيب الى قمة الجبل.
وعند اثني عشر حجرا يعتقدون ان قائد جيش النبي موسى يوشع بن نون جلبها الى الجبل وتمثل اسباط بني اسرائيل الاثني عشر مع صعوده الاول اليه، وقف السامريون مرددين الابتهالات قبل المضي قدما نحو الاعلى.
ويعيش هؤلاء المقيمين في نابلس ضمن النسيج الاجتماعي الفلسطيني والمدني. وثمة اعتقاد انهم اصغر طائفة دينية في العالم.
ويحمل سامريو نابلس الجنسية الفلسطينية اضافة الى الإسرائيلية، وجزء منهم يحمل جنسية ثالثة وهي الاردنية.
أما سامريو حولون فانخرطوا بحياتهم اليومية بالمجتمع اليهودي المحيط.
ولهم طقوسهم الدينية التي تقام فوق الجبل، وبعض الزيارات الموسمية لبعض المقامات المحيطة بالمدينة.
اما الجبل فهو مكان سكنهم الحالي بعد ان تركوا منازلهم في قاع المدينة بعد قلاقل امنية مع بداية انتفاضة الحجارة في نهاية ثمانينيات القرن الماضي.
وحياة السامري ترتكز كليا على كتابه المقدس الذي يختلف عن التوراة اليهودية بآلاف الفروق الثانوية والرئيسية. ويقضى السامريون حياتهم على هدى ذلك الكتاب إما صعودا الى هذا الجبل او هبوطا منه.
طويلون بعضهم نحيف يحملون العصي وزوادة من ماء. مهللون وممجدون في الجبل كانوا جميعا يسيرون وخلفهم ظلالهم الداكنة تحت ضوء خفيف بعيد.
اما من اعلى نقطه كانت اضواء المدن الاردنية ومدن الساحل الفلسطيني تتلألأ امام ناظر المنخرطين في صلواتهم.
جرزيم من بعيد يبدو ثاني اعلى جبال نابلس، لكنه من قريب يبدو اكثرها اطلالا على ثلاثة كيانات سياسية في بلاد الشام: الاردن وفلسطين واسرائيل التي تحتل الكيان الثاني.
بالنسبة للسامرين العالم مضبوط بساعة تتخذ من الجبل ميكانيكية لها.. في الفجر يبدو جرزيم مثل محطة مناسبة لرصد للنجوم.
فقمر غير مكتمل ونجوم مضيئة تبدو اقرب الى القمة من اي ضوء ارضي. او هكذا يبدو في معتقد من يقدسه: قريب من السماء، وقريب من نجومها.
جلوسا على الارض خلف الكاهن الاكبر عبد الله واصف، الذي ناهز الثمانين من عمره ظهروا من بعيد مثل بقعة بيضاء فوق سطح رمادي ولون المدى الشرقي الاحمر.
ان الحج هذا اليوم مناسب لكل فئات الاعمار، فلا مطر ينهمر ولا ريح قوية تجعل من الوقوف صعبا. وانحسر عدد السامريين عبر القرون من مئات الالاف الى نحو نفر كما تشير مخطوطات الرحالة ويؤكد الحديث السامري اليومي.
ويحجون إلى جبلهم الـمقدس ثلاث مرات سنويا، في نهاية عيد الفسح، وعيد الحصاد، وعيد العرش، لابسين القنابيز في إشارة إلى الظهور سواسية امام الرب.
واللباس واحد من سمات تلاحقها دائما عدسات الصحافيين الذين لم يتمكنوا الا من التصوير. فطرح الاسئلة والبحث عن اجوبة واحدة من محددات السبوت.
انها في الحقيقة ساعات الزمن المقدس الاول.
فقد ظهر السامريون وكأنهم انسلخوا خلال هذا الوقت من كل مقومات الحضارة والتكنولوجيا، وعادوا الى ممارسة دور الاجداد كما يعتقدون.
فلا هواتف نقالة ولا مركبات تقل كبار السن كما يحدث عندما يحل العيد في ايام لا يتضمنها السبت.
مع انبلاج الضوء كان بعض الرجال لم يصلوا الى القمة، لكن المسرب الحجري كان يحمل فوق حجارته صوت خطى قادمة من الاسفل.
إنهم رجال وصبية وحتى اطفال وصلوا متأخرين الى هذه الرحلة. من بين الواصلين متأخرين طفل لم يتجاوز الثلاثة اشهر، وصل محمولا على اكف والده، الذي ظهر بعينين زرقاوين تبحثان عن ملاذ من اشعة الشمس التي اشرقت للتو.
كان ذلك الطفل حفيد احد الكهنة. واقفا بين مجموعة من الرجال الذين يعتمرون القبعات والطرابيش قال والده 'إنه لا يريد التعرض لعدسات الكاميرات'.
كان الاب يحاول الابتعاد عن عدسة الكاميرا. لكن بإمكان المصورين التقاط مئات الصور في لحظة صفاء الصباح، واستقرار الغبار.
'إنه يوم سبت. سبت' اضاف مشددا وبدا انه لا يعطي حديثا لصحافي بقدر ما هو تحذير. في ايام السبوت يبتعد ابناء هذه الطائفة عن استخدام كل مقومات الحياة الميكانيكية مثل الساعات والسيارات والهواتف.
وحتى ان بعض الفتيات تحرم وضع المشط في رأسها خوفا من توليد الكهرباء الساكنة. في ساعات الفجر الاولى كانت انارة المنازل خافتة. فكل بيت يترك فيه ضوء في مكان وسيط لينير ظلام ساعات الليلة الفائتة.
وتبدأ الايام السامرية منذ ساعات المساء. وتبدأ حرمة السبت مساء الجمعة.
اما الصاعدون الى قمة الجبل، فلم يستطيعوا حمل القناديل هذا اليوم، ففي السبت لا استخدام لضوء او نار. كان عليهم تحسس الدرج المتعرج وصولا الى قمة الدنيا... القمة التي زرعت فوقها صخرة قدس اقداس حياتهم.