مستعمرون يقطعون عشرات الأشجار جنوب نابلس ويهاجمون منازل في بلدة بيت فوريك    نائب سويسري: جلسة مرتقبة للبرلمان للمطالبة بوقف الحرب على الشعب الفلسطيني    الأمم المتحدة: الاحتلال منع وصول ثلثي المساعدات الإنسانية لقطاع غزة الأسبوع الماضي    الاحتلال ينذر بإخلاء مناطق في ضاحية بيروت الجنوبية    بيروت: شهداء وجرحى في غارة إسرائيلية على عمارة سكنية    الاحتلال يقتحم عددا من قرى الكفريات جنوب طولكرم    شهداء ومصابون في قصف للاحتلال على مناطق متفرقة من قطاع غزة    "فتح" تنعى المناضل محمد صبري صيدم    شهيد و3 جرحى في قصف الاحتلال وسط بيروت    أبو ردينة: نحمل الإدارة الأميركية مسؤولية مجازر غزة وبيت لاهيا    ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 43,846 والإصابات إلى 103,740 منذ بدء العدوان    الاحتلال يحكم بالسجن وغرامة مالية بحق الزميلة رشا حرز الله    اللجنة الاستشارية للأونروا تبدأ أعمالها غدا وسط تحذيرات دولية من مخاطر تشريعات الاحتلال    الاحتلال ينذر بإخلاء 15 بلدة في جنوب لبنان    شهداء ومصابون في قصف الاحتلال منزلين في مخيمي البريج والنصيرات  

شهداء ومصابون في قصف الاحتلال منزلين في مخيمي البريج والنصيرات

الآن

'مطبخ' النكبة

 رشا حرزالله

داخل قبو ضيق، أسفل بيته في مخيم جنين، يختلي اللاجئ السبعيني محمود العامر مع نفسه لساعات طويلة كل يوم، بين تقليب ذاكرته، وتقليب محطات تلفازه بهدوء، إلا أن هذا الهدوء سرعان ما ينقلب إلى توتر لو مر خبر عن لاجئي مخيم اليرموك في سوريا.

العامر لا يحب الصحفيين ولا الزوار العاديين، لكنه وبحكم مزاجه المتقلب، يتراجع فجأة عن صدهم، بالقفز إلى رفوف خشبية ملفوفة كالحزام على خاصرة القبو، ويبدأ بإحصاء أدوات المطبخ المرصوصة فوق الرفوف والتي استطاع حمار عائلته حملها في رحلة التهجير من قرية المنسي قضاء حيفا إلى جنين عام 1948.

'هذه أدوات مطبخنا من أيام المنسي: محمصة للقهوة، وجاروشة لطحن القمح، غربال، راديو، ركوة لنشل الماء من البئر، سراج الزيت، بابور كاز، ميجانا لدق الحبوب، حمالة جمال، ومفاتيح الدار، دلال القهوة'، ثم يدير ظهره إلى الرف المقابل ويتابع 'وهذه الطناجر السوداء المحروقة مثل قلبي، كنا نطبخ فيها في المنسي'.

الأواني محظورة، يمنع على أحد الاقتراب منها أو لمسها، يخاف على ضياعها، ما جعله يوهم المحيطين به بوجود كاميرات مراقبة، موصولة مع شاشة، تكشف من يقوم بسرقه أي قطعة من الغرفة، يضحك بسخرية مُرة: 'أقول لهم هذا حتى لا يتجرأ أحد على أخذ شيء، إذا نقص شيء من الأواني أكتشف ذلك بنظرة واحدة على الرفوف'.

الناظر إلى وجه محمود ليس بحاجة الى شاهد آخر ليرى أثر اللجوء، فلم تأت نظرته السوداوية للحياة صدفة، لكنها تراكم لوجع عشرات السنين، جعلته يعتقد أن هجرة مماثلة، ستحل بشعب فلسطين، وعلى عكس كل اللاجئين الذين ينظرون إلى العودة بعيون فائضة بالأمل، يتحدث هو بقلب محروق: 'سيطردونا قريبا، إن لم يطردوني أنا، سيطردون أولادي وأحفادي، سوف نجد أنفسنا خارج بلادنا كلها مرة أخرى، وسترون ذلك'.

يضحك، وبسرعة البرق ينقلب مزاجه فيعلو صوته بالصرخات طالبا منا الخروج، يتركنا ويغادر الغرفة ثم يعود،' لماذا تجبرونني على الكلام، لا أريد أن أتحدث، ماذا أقول؟ كلنا خائنون، كلنا غارقون بالذنوب'.

لكنه سرعان ما يعود للحديث عن التهجير 'حينما خرجنا من قرية المنسي قضاء حيفا، كنا نمتلك زوجا من الإبل، وحمار، وبيتا من الشعر، أما جارنا فلم يكن لديه شيء، حينها أعطته أمي عنزة من عنزاتنا'.

لعائلة محمود العامر منزل كبير في مخيم جنين، يعيش فيه أبناؤه، لكنه يهرب كل يوم، يتقوقع على نفسه داخل القبو، بحثا عن الهدوء الذي لا مكان له داخل مخيم يضج بصراخ الصغار، وأصوات الباعة، وأحاديث النساء من أعلى أسطح المنازل.

بالإضافة إلى تأمل مطبخ النكبة وتقليب محطات التلفاز، يبيع العامر العسل للاجئين، يضع أجرار العسل في مخزن صغير بجانب القبو، حاولنا الهروب ما أمكن من لسعات النحل، بينما استمر هو في مداعبتها غير مكترث، ضحك بتهكم قائلا: 'ليست هذه اللسعات الموجعة'.

مابين نكسة 1967، والانتفاضة الأولى، حاول محمود العودة إلى المنسي، تمكن أخيرا من إيجاد عمل في طيرة حيفا القريبة، تسلل خلال عمله إلى قريته الأولى التي لم تكن معالمها قد تغيرت بعد.

'ذهبت إلى المنسي قبل عشرين أو ثلاثين سنة لقطف الزعتر كما كنت أفعل في صغري، لكن العائلة اليهودية ذات الأصول اليمنية التي استولت على المنزل طردتني مرة أخرى، ومن وقتها لم أره'.

محمود لا يهدأ، ولا يتوقف عن متابعة اخبار حي المنسي، لا يدع قريبا ولا بعيدا يستطيع الوصول إلى هناك، إلا ويلح عليه بالسؤال: 'ماذا حصل بالمنسي؟'، أحد أصدقائه أخبره أن معالم القرية تغيرت، بعد بناء مستعمرة كبيرة على أرضها.

نشرات الأخبار يتابعها واحدة تلوة الأخرى، وعلى محطات مختلفة، باحثا عن أي خبر حول مصير اللاجئين، ومعرفة ماذا سيحل بهم، و إلى أين وصلت القضية، سرعان ما يستفز ويخفت الصوت :'لا شيء، الأخبار متشابهة، كلها مثل بعضها'.

زوجته التي تسكن في الطابق العلوي من القبو، ونظرا لما عايشته من حروب وقتل وهدم لمنزلها إبان الاجتياح الإسرائيلي للمخيم عام 2002، واستشهاد ابنها مهند بقنبلة غاز خلال الانتفاضة الأولى، جعلها تنفر من أواني المطبخ وترفض وجودها، ووجود ما يذكرها برحلة سيئة، لديها هاجس بأن منزلها سيهدم مرة أخرى، هكذا هم اللاجئون، تعشعش في رؤوسهم فكرة الحياة المؤقتة.

حي المنسي بحيفا، لا يعكس اسمه بالنسبة لمحمود العامر الذي لم ينسه الزمان أن منزله يقع 'بعد قرية الجلمة، على بعد 200 متر من أول منعطف على يدك اليمنى، هناك قرية على طرف الشارع، هذه هي المنسي'.

ha

إقرأ أيضاً

الأكثر زيارة

Developed by MONGID | Software House جميع الحقوق محفوظة لـمفوضية العلاقات الوطنية © 2024