'مطبخ' النكبة
رشا حرزالله
داخل قبو ضيق، أسفل بيته في مخيم جنين، يختلي اللاجئ السبعيني محمود العامر مع نفسه لساعات طويلة كل يوم، بين تقليب ذاكرته، وتقليب محطات تلفازه بهدوء، إلا أن هذا الهدوء سرعان ما ينقلب إلى توتر لو مر خبر عن لاجئي مخيم اليرموك في سوريا.
العامر لا يحب الصحفيين ولا الزوار العاديين، لكنه وبحكم مزاجه المتقلب، يتراجع فجأة عن صدهم، بالقفز إلى رفوف خشبية ملفوفة كالحزام على خاصرة القبو، ويبدأ بإحصاء أدوات المطبخ المرصوصة فوق الرفوف والتي استطاع حمار عائلته حملها في رحلة التهجير من قرية المنسي قضاء حيفا إلى جنين عام 1948.
'هذه أدوات مطبخنا من أيام المنسي: محمصة للقهوة، وجاروشة لطحن القمح، غربال، راديو، ركوة لنشل الماء من البئر، سراج الزيت، بابور كاز، ميجانا لدق الحبوب، حمالة جمال، ومفاتيح الدار، دلال القهوة'، ثم يدير ظهره إلى الرف المقابل ويتابع 'وهذه الطناجر السوداء المحروقة مثل قلبي، كنا نطبخ فيها في المنسي'.
الأواني محظورة، يمنع على أحد الاقتراب منها أو لمسها، يخاف على ضياعها، ما جعله يوهم المحيطين به بوجود كاميرات مراقبة، موصولة مع شاشة، تكشف من يقوم بسرقه أي قطعة من الغرفة، يضحك بسخرية مُرة: 'أقول لهم هذا حتى لا يتجرأ أحد على أخذ شيء، إذا نقص شيء من الأواني أكتشف ذلك بنظرة واحدة على الرفوف'.
الناظر إلى وجه محمود ليس بحاجة الى شاهد آخر ليرى أثر اللجوء، فلم تأت نظرته السوداوية للحياة صدفة، لكنها تراكم لوجع عشرات السنين، جعلته يعتقد أن هجرة مماثلة، ستحل بشعب فلسطين، وعلى عكس كل اللاجئين الذين ينظرون إلى العودة بعيون فائضة بالأمل، يتحدث هو بقلب محروق: 'سيطردونا قريبا، إن لم يطردوني أنا، سيطردون أولادي وأحفادي، سوف نجد أنفسنا خارج بلادنا كلها مرة أخرى، وسترون ذلك'.
يضحك، وبسرعة البرق ينقلب مزاجه فيعلو صوته بالصرخات طالبا منا الخروج، يتركنا ويغادر الغرفة ثم يعود،' لماذا تجبرونني على الكلام، لا أريد أن أتحدث، ماذا أقول؟ كلنا خائنون، كلنا غارقون بالذنوب'.
لكنه سرعان ما يعود للحديث عن التهجير 'حينما خرجنا من قرية المنسي قضاء حيفا، كنا نمتلك زوجا من الإبل، وحمار، وبيتا من الشعر، أما جارنا فلم يكن لديه شيء، حينها أعطته أمي عنزة من عنزاتنا'.
لعائلة محمود العامر منزل كبير في مخيم جنين، يعيش فيه أبناؤه، لكنه يهرب كل يوم، يتقوقع على نفسه داخل القبو، بحثا عن الهدوء الذي لا مكان له داخل مخيم يضج بصراخ الصغار، وأصوات الباعة، وأحاديث النساء من أعلى أسطح المنازل.
بالإضافة إلى تأمل مطبخ النكبة وتقليب محطات التلفاز، يبيع العامر العسل للاجئين، يضع أجرار العسل في مخزن صغير بجانب القبو، حاولنا الهروب ما أمكن من لسعات النحل، بينما استمر هو في مداعبتها غير مكترث، ضحك بتهكم قائلا: 'ليست هذه اللسعات الموجعة'.
مابين نكسة 1967، والانتفاضة الأولى، حاول محمود العودة إلى المنسي، تمكن أخيرا من إيجاد عمل في طيرة حيفا القريبة، تسلل خلال عمله إلى قريته الأولى التي لم تكن معالمها قد تغيرت بعد.
'ذهبت إلى المنسي قبل عشرين أو ثلاثين سنة لقطف الزعتر كما كنت أفعل في صغري، لكن العائلة اليهودية ذات الأصول اليمنية التي استولت على المنزل طردتني مرة أخرى، ومن وقتها لم أره'.
محمود لا يهدأ، ولا يتوقف عن متابعة اخبار حي المنسي، لا يدع قريبا ولا بعيدا يستطيع الوصول إلى هناك، إلا ويلح عليه بالسؤال: 'ماذا حصل بالمنسي؟'، أحد أصدقائه أخبره أن معالم القرية تغيرت، بعد بناء مستعمرة كبيرة على أرضها.
نشرات الأخبار يتابعها واحدة تلوة الأخرى، وعلى محطات مختلفة، باحثا عن أي خبر حول مصير اللاجئين، ومعرفة ماذا سيحل بهم، و إلى أين وصلت القضية، سرعان ما يستفز ويخفت الصوت :'لا شيء، الأخبار متشابهة، كلها مثل بعضها'.
زوجته التي تسكن في الطابق العلوي من القبو، ونظرا لما عايشته من حروب وقتل وهدم لمنزلها إبان الاجتياح الإسرائيلي للمخيم عام 2002، واستشهاد ابنها مهند بقنبلة غاز خلال الانتفاضة الأولى، جعلها تنفر من أواني المطبخ وترفض وجودها، ووجود ما يذكرها برحلة سيئة، لديها هاجس بأن منزلها سيهدم مرة أخرى، هكذا هم اللاجئون، تعشعش في رؤوسهم فكرة الحياة المؤقتة.
حي المنسي بحيفا، لا يعكس اسمه بالنسبة لمحمود العامر الذي لم ينسه الزمان أن منزله يقع 'بعد قرية الجلمة، على بعد 200 متر من أول منعطف على يدك اليمنى، هناك قرية على طرف الشارع، هذه هي المنسي'.