'روشميا': الموئل الذي يعز فقده- نداء عوينة
في مدينة حيفا، كوخٌ من الصفيح يضم لاجئَيْن مسنَّيْن مهدَّدين بالتهجير بعد عقود من لجوئهما الأوَّل؛ يوسف حسان (أبو العبد) وآمنة أبو فودة (أم سليمان) عاشا سنوات عديدة في البراكية دون كهرباء، دون ماء، دون إنارة، نراهما في فيلم روشميا للمخرج سليم أبو جبل يخوضان صراعين؛ أحدهما مع مخطط البلدية الذي يهدد بقاءهما في الوادي، والآخر صراع بدائي بينهما يحتد مع اقتراب الخطر.
يرصد الفيلم تحوُّلاً في العلاقات الإنسانية وتطورها باختلاف الظروف الموضوعية المحيطة بها، ففي عزلة الزوجين الثمانينيّين عن محيطهما، لا يهتم أبو العبد بما يحدث خارج وادي روشميا، ولا يعنيه أي شيء سوى صراع بقاءٍ يعيشه حتى نهاية أيامه. قصة الفيلم ليست قصة نكبة، ولا احتلال؛ هي تغليب المدنية على الحياة الطبيعية. روشميا هو الموئل الذي يعزّ فقدانه، هو الأشجار التي رعاها أبو العبد، ويؤلمه موتها أكثر من موته، فهو، بانفعاله وحداده المبكر على بيته، يعرف نفسه بالوادي، ويريد فقط أن يبقى هناك ويدفن هناك، 'ولا عين ترى ولا قلب يحزن'، أما هي، بحياد وبرود، ترى في الخروج من الوادي فرصةً براغماتيةً للخروج من الفقر وشفقة المحسنين. ونجد وراء عناد كلٍّ منهما، إصرار أبو العبد على البقاء في الوادي، وتخلّي آمنة عنه، بوح بحنين لمواطنهما في ياسور ووادي الصليب، فيقول أبو العبد عن بيته الأول في وادي الصليب، 'كان عندنا قصر، مش براكية ولا دار، قصر!'.
يأتي فيلم روشميا ليذكرنا ببساطة نتوق إليها؛ بيتٌ صغير، زوجان مسنان، في وادٍ جميل، لا ضجيج الحداثة يزعج أيامهما ولا تسارع الحياة يلفت نظريهما. تبدأ الحبكة حين نعلم أن البلدية تنوي هدم البراكية لفتح شارع عام، وتصل ذروتها حين يحتدم النزاع على مبلغ التعويض الذي يحصل عليه الزوجان بفضل حملة إعلامية ناصرت قضيتهما ونجحت في تأجيل الهدم لمدة أربع سنوات، استطاع فيها أبو جبل رصد تفاصيل حياة أم سليمان وأبو العبد في عزلتهما، حيث لا زوار ولا عابري سبيل؛ 'ما حدا بيجي علينا إلا اللي قاصدنا.'
المشهدية في روشميا بسيطة وحقيقية، يُثقِلُها أحياناً صمتٌ يطول، لينفجر الصراع في لحظة أو لينفجر المشاهد بالضحك مع عفوية الزوجين وسجالاتهما المستمرة. تم تنفيذ الفيلم بحدٍّ أدنى من المؤثرات، فقد تُرِكت الشخصيات لتتصرف على طبيعتها أمام الكاميرا، لينتج فيلمٌ خفيف على القلب ملؤه الحركة رغم الثبات النسبي فيه، فبانتقال المشهدية داخل البراكية وخارجها، ينتقل المشاهد بين الحنين والقلق والتعاطف والألم، ليتفاجأ في كل مرة، أن هناك بُعداً جديداً للشخصيات لم يدركه في المشاهد السابقة؛ سلسلة من الأحداث البطيئة تكشف تصاعد النزاع إلى حدٍّ مقلق للمشاهد، كما هو لشخصيات الفيلم.
قضى سليم أبو جبل أربعة أعوام في توثيق حياة العجوزين، ثم كان عليه أن يجمع قصاصاتها ليخرج لنا بقصة جعلت الفيلم أشبه بالروائي الذي يسرد لنا حكاية عاشها بطلان من زمن غير زمننا هذا. سادت الفيلم رؤية إخراجية معمَّقة ومبسَّطة وحقيقية لدرجة أنها جعلتنا نضحك ونبكي كأننا جزء من المشهد لا مشاهدين لها فحسب، فكادت تخرجنا من إطار الفيلم لننهال على المخرج بالأسئلة حول الوادي والكوخ والزوجين وحياتهما وراء الكاميرا.
روشميا (70 دقيقة) هو الفيلم الطويل الأول لسليم أبو جبل بعد وثائقيين قصيرين هما لغة اللوز – عن حسين البرغوثي، ومفكرة الرحيل. حاز الفيلم على جائزة لجنة التحكيم للمهر الطويل 2014 في مهرجان دبي السينمائي الدولي، والجائزة الكبرى للفيلم الوثائقي في مهرجان تطوان السينمائي الأفلام الوثائقية 2015.