الصوت الآخر للمدينة
جميل ضبابات
يسري الصياح في وسط المدينة بعمق؛ الباعة وسائقو المركبات، وموردو الخضار، جميعهم يشكلون ظاهرة صوتية مألوفة، تميز مركز نابلس التجاري، لكن بمجرد الانحراف الى شوارع تتفرع من هنا، يسمع صوت آخر لا يجري الحديث عنه كثيرا.
إنه صوت الأوتار التي يعزفها موسيقيون صغار في مراكز المدينة الموسيقية.
وصعودا الى حي رفيديا القديم الذي كان يوما قرية صغيرة يسكنها خليط من المسيحيين والمسلمين، يمكن الاقتراب أكثر من تلك الألحان.
وهبوطا عبر درج الى الأسفل، يمكن الوصول الى دير روماني قديم انشأ قبل عام، وبات مسرحا للعروض الموسيقية هذه الأيام.
بالنسبة لسلام قاعود مدير مركز أوتار الذي يتخذ من الدير مقرا له، فان هذا المكان مناسب لعرض موسيقي 'إنه مكان مذهل للعروض'. بين فترة وأخرى تقدم عروض في قاعة الدير يشارك فيها إمّا عازفون من الخارج أو ممن تلقوا تدريبهم داخل المكان.
'نقيم الحفلات الموسيقية الشهرية والسنوية(...) يأتون الى هنا من حيفا وفرنسا. يأتون من كل أنحاء العالم'. قال قاعود.
وينخرط عشرات المتدربين في مراكز انشئت خصيصا لهذا الغرض في أنحاء متفرقة من المدنية، يمكن ملاحظة أولئك المتدربين يصلون الى مراكز التدريب التي تستعين بمدربين محترفين وآخرين من كليات الفنون في جامعات المدينة.
تظهر نابلس في العمق مدينة تهتم بالموسيقي، خلافا لما يعرف عنها اهتمامها بالتجارة وكونها تجمعا إداريا مركزيا للسلطات التي توالت على حكم البلد منذ العهد التركي الذي ميزته موسيقاه الخاصة.
إنها الموسيقى التي يمكن الوصول إليها لكن وراء الأبواب.
فالعزف تاريخيا أخذ طابعا اجتماعيا فرض على عازفين وعازفات التعبير عن مواهبهم داخل المنازل، لكن ليس في الساحات والمعارض.
بالنسبة لقاعود الذي يعيد يرتب برامج (أوتار) وفق عدد المتدربين والمدربين الذين يصلون يوميا تباعا. في قاعه علوية من الدير يجلس فتى كان في انتظار مدربه الذي يفترض ان يأتي من كلية الفنون في جامعة النجاح.
وقال المدرب أيمن مراعبة وهو أحد طلبة السنة الرابعة في كلية فنون جامعة النجاح إنه يأتي الى هنا مرات في الأسبوع 'أدربهم من الواحدة حتى السادسة'.
وفي كل مره يدرب طالبا واحدا.
وتنساب ألحان من غرف مختلفة يعزف فيها متدربون على آلات مختلفة.
يبدو مجتمع الموسيقى في المدينة أكبر من الظاهر. فعديد المراكز تنخرط في فترة الصيف في تدريب عشرات الفتية والفتيات على مختلف آلات العزف.
إلا أن المدينة التي عرفت بفسيفسائها الدينية، لم تغفل تلك الموسيقى التي تعزف في الحواري والأزقة منذ قرون طويلة. إنها الموسيقي الصوفية التي تتخذها بعض الفرق الدينية كواحدة من أدوات التدين.
واحدة من الفرق التي بدأ مركز أوتار تشكيلها هي الفرقة الصوفية. قال قاعود 'إنه بدأ بجمع المتدربين من المدينة.' بدأ الرقم بثلاثة متدربين. والآن لدينا منشدا و عازفين'. يتطلع الرجل الى الوصول الى مشروع متكامل يشمل الغناء والرقص الصوفي. منذ خمسة أشهر بدأ المتدربون يحضرون مساء الى قاعة التدريب أسبوعيا. وتقدم الفرق الصوفية أناشيدها غالبا في أيام يخصصها الفلسطينيون لإحياء الذكريات الدينية.
اشتهرت الموسيقي الصوفية في أزقة نابلس القديمة. وعلى الأقل يمكن مشاهدة أولئك الصوفيين يضربون الطبول في عيد المولد النبوي.
أما في الزوايا داخل البلدة القديمة يعقد أتباع الحركات الصوفية في زواياهم أسبوعيا الحلقات الدينية ليلة الجمعة فيدقون الكؤوس النحاسية ويقرعون الطبول.
يقول جميل المصري وهو يبدو مثل مايسترو فرقة إنشاديه موسيقية تسمى (أحباب المصطفى للمدائح الدينية) إنه أسس فرقته قبل عشر سنوات.' كان الأعضاء مداحين ومنشدين لكنهم لم يكونوا ضمن مؤسسة مثل اليوم'.
ويعتقد المصري الذي يجتمع بأعضاء فرقته في أوقات متفاوتة إما في السوق أو في محل النجارة الذي يديره بأن واحدة من مميزات المدينة الكثيرة هو أصوات منشديها.
إنه يرى في كل ذلك 'هز الأرواح'. وعندما ينشد جزء من حلقة ذكر يهز رأسه ويسرى على وجهه هدوء عميق. قال' هكذا نحن نهيئ الروح. هكذا نطربها'. لا يمكن إهمال حقيقية ان عددا من المنشدين هم من باعة البسطات في أسواق المدينة. هؤلاء بحد ذاتهم يجيدون أيضا المناداة على بضاعتهم بطريقة موسيقية. مخترقين جموع المتسوقين في خان التجار ينادى أحدهم على البطيخ ملحنا النداء الى أقصى حد.
هذا هو مصعب شحروي الذي يبيع فواكه مختلفة يوميا في السوق.
وهو أحد مؤذني المدينة أيضا، وأيضا أحد أشقاء يتطوعون في الفرقة التي يقودها المصري. بدأ مصعب كمنشد رئيس في الفرقة منذ خمس سنوات.
من وسط المدينة، لا يمكن الاستدلال على الحياة الموسيقية في نابلس. في العمق هناك العشرات الذي يشكلون وجه المدينة الآخر. انهم في الحقيقة جزء من ايقاع الحياة اليومي.