أبي أنت حـُر وأنا السجينة- قصة إنسانية تعيش تفاصيلها الطفلة سارة أيمن قفيشة
لا أعرف كيف يتعامل الآباء مع الأبناء، ولكني أعلم حنان أبي، الذي طالما حلمت أن أعيش معه لحظاتي .
ذاك هو أبي .. وإني لصبورة في العادة ، وأي صبر بعد أربعة عشر عاما ، وكأني ألحظه في جنبات بيتنا يناديني "يا سارة" ، يربت على كتفي في صلاة الفجر ، أجالسه ... اشتقت إلى الجلوس بجانبه وهو يصحبني إلى المدرسة، أقف أمام زميلاتي ، وأقول : هذا أبي .
بعدك والدي هدني ..... تعجز كل الأقلام وتتبعثر كل الكلمات أمام طفلة تجوب بك في مد خيالها وكأنها تعيشك واقعًا مشهودًا، انتظرته بسنوات عمرها، عدت السنوات والأشهر والأيام والساعات حتى الدقائق والثواني للحظة اللقاء.
اغرورقت عيناها بالدمع وتمتمت بكلماتها وهي تقص علينا مشهد نبأ بشرى صفقة التبادل ، وما صاحبها من فرح شديد ، تشرد سارة بعيدا إلى ما وراء ذاكرتها الأليمة وبعد أبيها ، تبكي قليلا ثم تمسح وجهها بيديها ، تسرد بألم حديث الحاضر الماضي ، وبتنهيدة عميقة تصور لنا المشهد الأخير ووالدها طليق وهي حبيسة تتوق لحضنه.
يوم الاثنين 17- 10-2011 "الجسر اللعين "
وقفت عن بعد لتتأمل البيت الذي حواها أربعة عشر عامًا، تذكرت زميلاتها في المدرسة حين عزمت على الرحيل إلى غزة، فقد قرر الاحتلال نفيه إلى القطاع.
البيت ... مدينة الخليل ... المدرسة .. الأهل ... أم ... والدي ... ؟ كل شيء يهون أمام لقاء والدي .
كلهم فرحوا لفرحها وحاولوا أن يقفوا إلى جانبها وهم يودعونها ، فقد حان موعد الخروج إلى الجسر ، غدًا سأكون بين أحضان والدي ، كم أتوق لهذه اللحظة .
حزمت سارة أمتعتها ، وكما حزمت الوالدة بعض أغراض البيت ، حرصت سارة على كتبها ، دمعت عيناها وهي تنظر إلى مكتبتها التي ضمت أكثر من خمسمائة كتاب ، أصرت على الرحيل إلى غزة ، لم تكن تهتم بأي مكروه يمكن أن يقع لها ، لقد طغى على قلبها حب والدها وقررت الرحيل من أجله .
ودعها الأهل والجيران في موقف مهيب ، خرجت وهي تودع مدينة الخليل ، وصلت نقطة التفتيش على جسر الملك حسين الفاصل بين الأراضي الأردنية الفلسطينية ، فشعرت بنبض قلبها يتسارع ، تداخلت الأفكار في ذهنها وعملت الوساوس عملها... ترى ماذا سيفعلون بي ؟ هل سيخرجونني إلى الأردن ؟! أم يقومون بإرجاعي كانتقام للصفقة ؟ هل سيعيدونني خائبة دون تحقيق مطلبي ؟ .
طلبوا مني ووالدتي الجلوس على المقاعد الخارجية ، وقد احتجزوا كل أغراضنا ، نظرت إلى والدتها وقد بدا الحزن على وجهها ، اجتاح كيانها شعور بالخوف وعدم الأمان ، مكثنا الساعات وننحن ننتظر إذن الخروج، تقدم ضابط إسرائيلي ضخم أمرنا بالمغادرة فأنتم غير مرحب بكم هنا ، ولن يسمح لكم بالخروج .
وقفت والدتي ، وهي تتلفت يمنة ويسرة !! أمسكت بيدها.. أمي لا تبكي ، أمي بالله لا تحزني ، لم أتمالك نفسي ، نظرت إليها بعينين حزينتين نعم أمي أرجوك .. لا تحزني ؟ والدي سنراه . تصمت وتطأطأ برأسها .. .. تصمت برهة وتفكر .. حسناً سنعود للبيت ، انتظري هنا ريثما أعود ؟
وتنطلق بنا السيارة عائدة للخليل ، وبكاء أمي وبكائي يتعالى ، لقد خابت الآمال ، رأينا السواد الكالح ، لعن الله الاحتلال ، ليلتنا كانت ظلماء ، عدنا إلى الخليل ولم نعلم كيف عدنا ، دخلنا البيت واستلقيت على الفراش أنا ووالدتي ، ودموعنا لم تفارق وجنتينا .
الثلاثاء 18- 10-2011م " صفقة التبادل "
انتبهت على صوت أمي تناديني : سارة .. سارة ..نهضت وأسرعت نحو أمي وهي تجلس أمام التلفاز تشير بيدها وهي سعيدة ، الأسرى يخرجون .. الحافلات تقلهم إلى غزة ... كبرت فكبرت، هللت فهللت ... ما أسعدها من لحظات ، الشكر لله يا أمي ، سجدت على الأرض شاكرة ربي، وتمضي الساعات ونحن نعد الثواني هل سنراهم على أرض غزة .
في صباح الثلاثاء 18-10-2011م ، وحافلات الاسرى المحررين تدخل غزة ، وسارة ووالدتها تراقب كل مشهد على التلفاز، وتقبض بيدها هاتفها النقال ، عاد أبي ، شعرت الوالدة بسعادة غامرة ، ظنت لوهلة أن أملها خاب ، تتصل على صديقة لها هناك على أرض المشهد ، هل رأيت زوجي ايمن؟ أرجوك لا تتعجلي سنأتي به إليك هنا بعد قليل إن شاء الله، وتنفرج أسارير البشر في قلبها ، وتظهر الفرحة على محياها .. حقاً .. هل أنا في حلم يا سارة ؟ أمي بل هي الحقيقة وما عليك إلا الانتظار قليلاً حتى نكحل عينينا برؤيته عبر شاشات البث ، يرن الهاتف إنها صديقة أمي: زوجك سليم معافى ، تعني أنه بخير وعافية ؟ ها هم وصلوا وصلوا .. يفتح الباب ليلج منه رجل مهيب يرتدي قميص وبنطال ..
سارة ..أمي .. إنه أبي ، أمي .. أمي ، تنهض وتهرع نحو التلفاز تريد تقبل الوالد، والدي حبيبي غير معقول ، كم اشتقت إليك يا أبتي (تبكي بحرقة .. تقبل أمها ..) يا الله ... يا الله .... يا الله .... أريد أبي .
رسائل الحنين
سارة ابنة الأسير المحرر أيمن قفيشة ، أم عبيدة زوجة الأسير المحرر أيمن قفيشة هل من رسائل تبعثونها عبر "الشبكة الأوروبية للدفاع عن حقوق الأسرى الفلسطينيين" (UFree) ولأي جانب تبعثون ؟
الرسائل كثيرة وعديدة وأولها لأغلى ما نتوق إليه أبو عبيدة الحبيب :
تطفر سارة بعبرة بالنظر إلى السماء متجاوزة كل الحواجز والجسور والسدود التي تقف حاجزًا وتمنعها مخاطبة الوالد الحبيب: أعلم أنك اعتدت طوال أسرك الممتد منذ اغتال وصالك العبيد ، أن ترسم كل ليلة ذاك المشهد الذي يلتحم فيه قلبي وقلبك مع أمي الرائعة التي لا زالت تعبر بشوقها لك رغم البعد و المسافات، لنحط أنا وأمي بطيفنا كل ليلة إلى حيث أنفاسك، نحن نتوق لك ونسأل الله العلي العظيم أن يجمعنا قريبًا وعاجلًا غير آجل .
الرسالة الثانية :
كل الشكر والقدير والامتنان لكم إخوتي في الشبكة الأوربية لما منحتمونا من اهتمام.. فبداية أنتم من سمحتم لنا في مؤتمركم أن نقف ونعبر عن مشاعر الآلاف من العائلات الفلسطينية ، وإن كان من طلب لي عندكم بأن تكملوا فضلكم علينا لنلتقي الوالد وجهًا لوجه، فهذه أصبحت أمنيتي في الحياة، وأنتظرها لحظة بلحظة .
الرسالة الثالثة :
الشكر موصول إلى كافة الأطراف التي كان لها دور كبير في إتمام صفقة تبادل الأسرى، وعلى رأسهم المفاوضين الفلسطينيين و القيادة المصرية الجديدة التي كانت لها دور في جولات المفاوضات حتى أنجح الله عز وجل هذه الصفقة المشرفة بكل المقاييس.
تلك كانت الحكاية التي روتها سارة ووالدتها ، وأملت أن تأتي لحظة النهاية فيفرج عنها لترى مهجة قلبها والدها ، وأول فرحة عمرها؛ لتعود إلى حضنه وتغمره بالشوق الذي أذاب قلبها، فعينيها التي ذبلت من كثرة بكائه.. أملت ذلك ولسان حالها يقول: " والدي غادرْتني وأنا لم أكن أعرفك ، وغدوت خلف القضبان ، ثم تساءلت: هل سيمنحني الله رأياك دون قضبان أو أسلاك شائكة، وأضمك إلى قلبي دون حواجز أو جدران صماء؟ "
سألتُ الله أن يحقق لها أملها، وأمل كل أطفال الأسرى القابعين في زنازين الاحتلال المظلمة، فرددتْ الدعاء وغابت في عمق صورة والدها الحبيب الغائب.
فرحة منقوصة
لكن فرحة سارة ووالدها بالإفراج عنه ضمن المرحلة الأولى من صفقة تبادل الأسرى مقابل إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، لا تزال منقوصة إثر إبعاده إلى قطاع غزة ومنع الاحتلال الإسرائيلي عائلته من السفر إلى الأردن للقائه.
ويدرك أيمن قفيشة (41 عامًا)، أن حركة "حماس" والراعي المصري لصفقة التبادل لن يقفا مكتوفي الأيدي تجاه منع الاحتلال الإسرائيلي لعائلات المحررين المبعدين من الضفة الغربية إلى قطاع غزة والخارج من السفر للقاء أبنائهم بعد سنوات طويلة من الأسر.
ويتمنى الأسير المحرر والمبعد إلى غزة، أن يتعامل الجانب المصري مع هذا الموضوع بشكل إيجابي وسريع، بحيث تكتمل فرحة المبعدين بلقاء ذويهم. كما تمنى أن يكون سفر أهالي المبعدين عبر معبر بيت حانون "ايرز" وليس من خلال الأردن ومصر الشقيقة.
وتحاول سلطات الاحتلال الإسرائيلي التنغيص على الأسرى المحررين ضمن صفقة التبادل، بطرق عدة كـ"إطلاق التهديدات باغتيالهم، ومنع ذويهم من السفر للقاء المبعدين منهم، ومنع مظاهر الفرح والابتهاج بتحررهم كما حدث في القدس"
سندباد السجون
قفيشة الذي عرف "العزل الانفرادي" لابنته "سارة" على أنه "زنزانة صغيرة الحجم ضيقة الجدران بلا نوافذ"، لم ينسى أن يذكرها بأن "الحياة ضيقة على اتساع خريطة الكون فكيف وإن كانت على اتساع ثلاثة أمتار مربعة داخل زنزانة يسارع فيها ثلاث أثقال، ثقل الوحدة وثقل الجسد المنهك وثقل الفكر والهموم".
وإن سَلِمَ قفيشة من دخول زنازين "العزل الانفرادي" إلا انه لم يَسلم من التنقل بين كافة السجون الإسرائيلية خلال فترة اعتقاله التي زادت عن 14 عامًا، تعرض خلالها لشتى ألوان التعذيب الجسدي والنفسي، على يد السجانين والمحققين الإسرائيليين كباقي الأسرى.
وفي إحدى المرات وأثناء نقل قفيشة إلى سجن الرملة قادمًا من أحد السجون الأخرى التي مكثف فيها لفترة من الزمن، وكانت هذه هي المرة الثانية التي ينقل فيها الأسير المحرر إلى هذا السجن فما كان من آمر السجن إلا أن قال له باستغراب: "ليش جاي عنا؟ أنت دخلت كل السجون ورجعوك علينا!"..
ووصل الأمر بـ"أم عبيدة" زوجة المحرر قفيشة إلى أن أطلقت عليه لقب "سندباد السجون" لكثرة التنقلات التي تجريها السلطات الإسرائيلية بحقه، وذلك ضمن سياسة مقصودة تتبعها إدارة السجون بحق الأسرى في محاولة منها لكسر إرادتهم وعزيمتهم.
أشكال التعذيب
ويقول قفيشة لـ"الشبكة الأوروبية للدفاع عن حقوق الأسرى الفلسطينيين (UFree)"، بعد اعتقالي عام 1997، مكثت لمدة 60 يومًا بشكل متواصل مقيدًا على كرسي الشبح – كرسي صغير جدًا ومتعب في الجلوس- ليل نهار".
ويضيف: "واتبعت سلطات الاحتلال أسلوب آخر معي، من خلال إجلاسي على كرسي لا ظهر له وتقييد يدي وأرجلي إلى الأسفل وشدها بحيث يصبح ظهري مقوسًا شكل فاكهة الموز وهذا الوضع يؤدي أحيانا إلى الشلل أو الإصابة بالغضروف".
ويتابع الأسير المبعد إلى غزة: "الأسلوب الآخر الذي استخدم معي هو شد الكلبشات بطريقة تشعر خلالها بأن يداي تكاد تتقطع من شدة الألم، إضافة إلى التعذيب بالهز الشديد وغيرها الكثير من الأساليب إلى جانب البصاق والشتائم والتهديدات التي لا تتوقف".
وتشن إدارة السجون الإسرائيلية حملة شرسة ضد 5300 أسير فلسطيني لا يزالون خلف قضبان الأسر -وفق إحصاءات حديثة صدرت عن مراكز حقوقية فلسطينية.