حين كانت سوريّة محطةً تلفزيونية في بيتنا
رحمة حجة
يغني المطرب السوري الشعبي معن دندشي "يا طير سلملي ع سوريّة وعا قلب ودّعتُه بأراضيّا".. وتظلّ الأغنية مستمرة حتى آخر مشهد من مسلسل "بانتظار الياسمين" في حلقته الأخيرة.
وروى المسلسل قصصًا من معاناة النازحين السوريين خلال الحرب التي تعصف ببلادهم منذ نحو أربعة أعوام، مركّزًا في معظمه على هموم المرأة النازحة والمفارقات والمقاربات التي تحصل بين العائلات النازحة -مسكنها إحدى حدائق دمشف العامة- والعائلات التي ما زالت في بيوتها وتمارس إلى حدٍ ما حياتها الطبيعية.
وتبدو فكرة العدو الواحد بعيدة المنال، إذ أظهرَ واقع الحرب أعداءً كُثُر بين النازحين، باتوا أكثر استغلالًا وانتهازية لما يحيطهم، مقارنة بآخرين كانوا أقرب إلى "المثالية" تحت ظروف القهر والذل، وإن انتهى المسلسل بضحكات أطفال وبياض الثلج الذي يكسو دمشق ومقتل أبرز شخصيات "الشر"، فإن الحرب لم تنته كما لم ينته النزوح واللجوء، وأظنّ كلّ سوريّة تحفظُ كما حفظنا منها مقولة ابنها سعدالله ونّوس "نحن محكومون بالأمل".
يكمل دندشي بنبرة حزينة "يا شام ما بقدر حنيني إوصِفُه.. سرّ المحبة الناس كلّا بتعرفه.."، وأتذكّر سوريّة التي نمَت في دواخلنا مذ كنا أطفالًا، عبر التلفزيون الرسمي لها في محطتيه الأولى والثانية.
سوريّة كانت محطة تلفزيونية في بيتنا، نتناول طعامنا أمامها ونبدّل ملابسنا سريعًا بعد العودة من المدرسة، أيضًا أمامها، لنسارع في تقليب صفحات الكتب من إنهاء الواجبات اليومية والتحضير للغد وأيضًا الدراسة للامتحانات، بحضورها.
كنا ندرس للامتحان أثناء مشاهدة البرامج، وتقول أمي "كيف ستنجحن؟" وننجح، ونحوز أيضًا على علامات عالية. لا ضرر في حينه، فالعقول الصغيرة أنقى وأقل فوضى من الكبيرة، وسوريّة لم تشتتنا يومًا.
نادرًا ما كنّا نفوّتُ أيًا من برامج المحطتين: في الأولى نشاهد كل شيء "بالعربي"، وفي الثانية نقتنص فرصة سماع اللغات الثانية كالإنجليزية والإسبانية والفرنسية.
وكنا أنا وأختي التي تكبرني بعام، نحفظُ كل برامج الرسوم المتحركة، ومواعيدها، وبرامج الأطفال التي ينتجها التلفزيون السوري. أما المذيعة فاتنة محمد، فهي نجمتنا آنذاك. سنواتٌ ونحن نشاهدها تلتقي أطفال سوريّة وتسألهم عن هواياتهم وطموحاتهم، ويغدقون حولها من براءتهم، وكنتُ كطفلة مثلهم، أغار من عيونهم الواسعة اللامعة وبشرتهم البيضاء النقيّة، حتى إذا ما رأيتُ أحدًا يشبهنا في سُمرتنا أنا وأولاد الحارة، أبتهج. وأحاول تقليدهم بإيجاد هواية وطموح يصنع لي هويّتي. تمنيتُ لهم تحقيق أهدافهم مستقبلًا، لكن ما الذي حدث لأولئك الأطفال حين كبروا؟ هل حققوا أمانيّهم العظام أم داستهم رحى الحرب أـم فرقتهم أفكارهم الكبيرة أم ما زالوا بانتظار الياسمين؟
"طلائع البعث" كانوا أيضًا جيلًا مختلفًا من الأطفال الذين يعتزون بعروبتهم وبلادهم الحُرّة، نتابع مهرجانهم السنوي القُطري، وننتظر نتائج ترتيب المواهب، وإلى جانبه، نتابع مهرجان الأغنية السورية الذي عرفنا من خلاله صوت أمل عرفة وميادة بسيليس وميراي مصطفى وهويدا، ونرقب نتائج الربح والخسارة في الكلمات والصوت والأداء والرقصات المرافقة للأغاني.
وفي "ما يطلبه الجمهور" ننتظر أغانينا المفضلّة، ونتعرّف في برنامج "عزف منفرد" على آلات موسيقية لا نعرفها، ومن برنامجها الخاص بالمسرح عرفنا مسرحيات عالمية وأسماء صاعدة بالفن، كما انتظرنا فيلم "الخميس" العالمي، الذي يُحلله ناقد سينيمائي، عبر توصيفه الأحداث وكشف المبهم فيها إذا ما أوغلت في الرمزيّة. إلى ذلك، نحفظ أغاني الشارات لكل المسلسلات والبرامج والرسوم المتحركة والإعلانات، ونتضاحك في المدرسة على بعضها حين نرددها مع صديقاتنا. نعرف الوجوه الجديدة من الممثلين والممثلات ونحفظ أسماءها، ونتثقف مع كل "شارة" (تسمى تتر حاليًا) عبر انتباهنا للأسماء المدرجة فيها، لنبحث عن الغريب منها في "المُنجد" ونسعَد إذا ما وجدنا معانيها الفريدة.
كما كانت تُضحكنا تسريحات شعر المذيعات السوريات، وإفراطهن في الماكياج ومثبت الشعر "اسبريه"، الشيء الذي ما عهدناه إلا في الأعراس لدينا. إضافة لسخريتنا حين تلتقي مذيعة لها من الخبرة 20 عامًا وأكثر مع أخرى جديدة مرحة تضع مكياجًا أقل وتسريحة شعرها هادئة، والتنافسية التي تظهر بينهما وتفضحها اتصالات الجمهور.
مهرجان اللاذقية وحلب وطرطوس وتدمر وغيرها، بالبث المباشر، لا نفوّت أيًا منها، حتى أننا كنا نشاهد بمتعة ودون ملل الاستراحات الموسيقية بين البرامج، التي تعرض مشاهد من بلدات وقرى سوريا، وقت الربيع والثلج والصيف، وكم تمنينا "سِيرانًا" في إحداها.
لم نكن ندرك أننا حين نحب الطلائع ونشاهد محاضر "مجلس الشعب" ونشاهد "العمال المهرة" وقُبلات الأطفال ليد حافظ الأسد، أننا في ظل ثقافة الحزب الاشتراكي، وأدركنا أن الصناعات السورية في الإعلانات وخلّوها من أي سلع عالمية مثل "كوكاكولا" أو "همبرغر" كانت جزءًا من مناهضة الرأسمالية والشركات العابرة للقارات، حين قرأنا في كتب الجغرافيا أن سوريّة "مكتفية ذاتيًا" وتصدّر أكثر مما تستورد.
كبرنا وكبرت سوريّة واختفى بعض نجوم طفولتنا من فنانين/ات ومذيعين/ات. كبرنا وصارت سوريّة جزءًا من مشهد دموي نتناوب على انتهاكه في دعمنا لهذا ووقوفنا ضد ذاك في نقاشات السياسة العقيمة. نعم، ما زلنا نشاهدُ سوريّة عبر الإعلام والدراما، والفرق أنها الآن حطام، فسوريّة الحلم تختفي تحت أقدام الإرهاب والمرتزقة والمُتاجرين بها و"حُماة الديار".
هل من قلب يحتمل؟ ألم يستكفِ القتَلَة من الدم والدموع؟ ربما لا، رغم أن "الدم والدمع اللي نزلوا بهالحرب.. بيغسلوا أحقاد سنين مرقت وصاروا يكفي لسنين وسنين طويلة لقدام" حسبما قال أحد النازحين في المسلسل باكيًا، وأبكانا معه، واكتفينا بالبكاء.