محمد يرث مهمّة والده.. 25 عاماً في خدمة دير قرنطل
رحمة حجة - 16 عاما تقف على الباب، وتجارب التاسعة والعشرين تتردد في الدخول، فهذا -الذي يبدو حارساً- للدير، وحيدٌ فيه، والمكان أخطر من أن نهرب منه إذا ما اضطررنا لذلك، أنا وصديقتي التي تصغرني ستة أعوام..
تأتي كلماته من فوق، ونحن مازلنا واقفتين على حافة البوابة "ادخلوا.. ادخلوا.."، نرتاب قليلاً.. ثم نقرر الدخول.
أبدأ التصوير مباشرة كي أخفف من القلق، في هذا المكان العجائبي الموغل في الدهشة، كما هي موغلة حجارته في أعلى جبل "الأربعين" في مدينة أريحا، الأقدم في العالم.
الحجارة الجبلية الراسخة دون تغيير منذ مئات السنين، والأخرى المشيدة والمرممة حديثاً، تتعانق معاً في الممر الموصل إلى قاعة العبادة، التي تأتلق فيها المعالم الدينية عبر الصلبان والمنحوتات المتعددة للمسيح عليه السلام، عدا عن اللوحات الفنية التي تجذب الرأس إلى الأعلى في السقف، كما تجذب إضاءة الشمعدانات الخافتة إلى جانب "المصلوب" عدسة الكاميرا التي تتعنت حتى تنجب صورة ترضيني.
فعلياً، لا أتذكر شيئاً من داخل الدير، حين زرته قبل 16 عاماً، سوى بعض السياح الذين كانوا يتحدثون لغات غريبة، والكثير من الصلبان الخشبية التي تباع للزوار.
يومها، صعدنا الجبل سيراً على الأقدام، كما نزلناه سيراً. "التلفريك" اليوم يبدو حلاً مريحاً وجميلاً أيضاً، ربما السير أكثر متعة لكنه لا يتيح لك النظر إلى الخلف، فلغاية اليوم أتذكر نظرة واحدة، لم أكررها أثناء صعودي، حيث كان الوادي أسفله سحيقاً جداً لدرجة "الرعب" بالنسبة لطفلة مثلي في حينه.
في "التلفريك" يتاح المجال للنظر حولك إلى مدى المدينة التي يتساوى فيها ارتفاع البنيان، تطل على بيوتها، وعلى البلدة القديمة منها "تل السلطان" وأشجار النخيل، وعلى ملامح الضفة الأخرى (الأردن) من بعيد. كما يتاح لك التقاط بعض الصور والحديث والضحك ربما دون أن تشعر إلا بوخزة خوف واحدة تنتهي فوراً أمام متعة المشهد من أعلى.
لكن من هو صاحبنا الذي قادنا إلى تفاصيل الحكاية في تاريخ الدير.. دير قرنطل؟ إنه محمد، الذي يقيم فيه منذ نحو 25 عاماً، يقول لنا "هنا أعمل ولا عمل لي سوى هنا"، ويروي لنا جزءاً من الرواية حول المكان "قضى فيه المسيح عيسى عليه السلام 40 يوماً وليلة صائماً معتكفاً في مغارة صغيرة هي أساس كلّ البنيان الذي تشاهدونه الآن".
نخوض مع محمد أحاديث عديدة، عن تجربته التي تعلم خلالها أربع لغات (الإنجليزية، اليونانية، العبرية، الروسية) وعن التصوير الفوتوغرافي. كما تبادلنا قصص التداوي بالأعشاب والشعوذة، تلك التي أكد "وجودها وتأثيرها بالشفاء أو الضرر على الناس" وأشك في ذلك، واتفقنا بأن الأمر يظلّ نسبياً.
نرتاح أكثر إليه ويساعدنا في عديد الصور، ويرتاح أكثر إلينا فيخرج لنا ألبوم صور قديمة، لا يريه لجميع الزوار، كما بدا لنا.
هذا الألبوم يكشف مهنته المتوارثة "أباً عن جد"، حيث يظهر والده مع رهبان في أريحا، ليخبرنا أن الأخير قضى أعواماً مثله يعمل في خدمة الدير وإرشاد السوّاح.
ومن المواقف الطريفة، التي بدت في إحدى الصور التي ارتدى فيها محمد زيّ الرهبان، لاستقبال وفد من القساوسة الذين أتوا من خارج البلاد، لزيادة عدد المرحبين به داخل الدير من الرهبان.
كما يعطينا محمد مفتاح الدير. نلتقط معه صورة، للذكرى أيضاً، ونعيده.
يأخذنا إلى داخل المغارة.. التي تضيق على الزوار لكنها تتسع لجميع أحلامهم وآمالهم، على ما يبدو. فالصور العائلية والفردية تتناثر فيها، إلى جانب أوراق أو بالأحرى رسائل إلى المسيح، مفتوحة وأخرى مطوية، تنغرس في شقوقها.
يقول محمد، إن هذه الرسائل بمثابة دعوات وأمنيات يبرقونها في هذا المكان المقدس، على أمل أن تُستجَاب.
أتذكر في هذا الحين، شجرة "أم النذور" في الرواية التي تحمل ذات الاسم للروائي عبد الرحمن منيف، حيث كان الناس يرمون ويعلقون على أغصانها أمانيهم، لاعتقادهم أنها مباركة، وينتظرون الاستجابة. وهذا جزء أساس في تاريخ الدين الشعبي الذي مازال إلى اليوم يمارس بطقوس مختلفة.
أما نوافذ الدير الداخلية والخارجية، فحديث آخر، وجمال آخر. عدا عن الشرفة، التي تعدّ في هذا الدير أعلى نقطة في مدينة القمر. يطيب لنا الجلوس والتأمل أكثر في المشهد الذي تطل عليه، فنرتاح إلى القليل والكثير من الصور التي تخلد الذاكرة.