هذا أنا، فلم أكن اكتب على الماء- أحمد دحبور
بشيء من الحرج وكثير من السعادة والامتنان، اقترب هذه المرة من الورق ضمن حالة استثنائية، فلم أكتب، هذا الاربعاء، مراجعة لاحد الكتب كما هي العادة بل اتأمل بما يشبه براءة الاطفال، ثلاثة كتب نقدية يجمع بينها ناظم مشترك، وهي أنها مكتوبة عن تجربتي الشعرية المتواضعة: الكتاب الاول بعنوان "التواصل بالتراث في شعر احمد دحبور" للباحثة الفلسطينية بنان صلاح الدين، وهو كتاب صادر عن مركز الابحاث الفلسطيني ويقع في 276 صفحة. أما الكتاب الثاني – وعنوانه "احمد دحبور وسعادات البشارة: رؤية نفسية في المنجز الشعري" فهو من تأليف الباحث العراقي شوقي يوسف يهنام، وقد صدر عن كلية التربية في جامعة الموصل، فيما لم يصدر الكتاب الثالث على هيئة كتاب رسمي، بل هو من انتاج كلية التربية في جامعة القدس المفتوحة، عنوانه "التجربة الشعرية عند احمد دحبور" وقد اعده ثلاثة من الدارسين الفلسطينيين، هم نعيمة عبد الحميد عفانة، ومها سعدو ونور الدين وغسان عبد الحليم النحال، باشراف د. علي عودة، واذ أتقدم بالشكر العميق لهؤلاء الدارسين ومن اشرف على عملهم، فانني ارجو وآمل ان تكون تجربتي الشعرية المتواضعة عند حسن ظن الجميع، مع تأكيد ان هذه الجهود المشكورة انما تلقي علي مسؤولية أدبية أتمنى أن أكون جديرا بها، وليس هذا من قبيل التلطف الاجتماعي بل هو انحناء امام الجهد الصادق والمقصد النبيل لدى هؤلاء الدارسين المجتهدين.
وعلى مبدأ: السيدات اولا، دعوني ابدأ بكتاب الاخت بنان صلاح الدين، معترفا لها بالصبر الدؤوب الذي بذلته في انجاز كتابها، وراجيا ان تكون تجربة عمري الشعرية تليق بما قدمته هذه الاخت الفاضلة من متابعة تناسب سعة افقها، فلعلي – في رحلة العمر هذه – لم اكن اكتب على الماء، بل كنت اخط بالحبر الفلسطيني بعضا من سيرة روحي وتطلعاتي المتواضعة.
التواصل بالتراث
يقع كتاب بنان صلاح الدين في سبعين ومئتي صفحة من القطع الكبير، ويتناول سيرتي الذاتية دراسة وثقافة ونشاطا، ويتابع ما سمته الباحثة، الظاهرة التراثية في شعري، ليركز الفصل الثالث على المصادر التراثية في هذا الشعر، فيما يتوجه الفصل الرابع الى ما اعتبرته الباحثة ظواهر فنية في شعري، وتناولت في الختام فصلا من سيرتي الشخصية مع ملحق يتابع الصور والتراكيب التراثية في تجربتي المتواضعة، وبعد أن صورت شهادتين مكتوبتين بخطي الشخصي عن جوانب من تجربتي الادبية والذاتية افردت فصلا لمتابعة الصور والتراكيب التراثية التي استخدمتها في مشروعي الشعري، ليبلغ الكتاب سبعين ومئتي صفحة من القطع الكبير، والحق اني شعرت بعميق الامتنان لهذا الجهد النبيل الذي تناول مسألة الظاهرة التراثية وعوامل التواصل مع التراث على المستويات التاريخية والدينية والاسطورية والادبية، ثم متابعة البنية الشعرية والبناء الدرامي والصور الشعرية عندي بصيغتيها البسيطة والمركبة، واتبعت عملها الصادق المشكور هذا ببعض شهاداتي الشخصية مع معجم الصور والتراكيب التراثية كما رأتها في شعري، وعادت الى قائمة طويلة من المراجع لا تخص شعري وحده بل تتناول الكثير من جوانب الشعر العربي الحديث.
وقد افردت الباحثة اربعة فصول لضبط مسار هذه التجربة، وكانت هذه الفصول تتعلق تباعا بسيرة حياتي من المولد الى النشاط بمستوياته السياسية والصحفية والادبية، ثم تناولت الظاهرة التراثية في هذه التجربة بعواملها القومية والسياسية والاجتماعية والنفسية والفنية، لتنتقل الى المصادر التراثية من فلكلورية الى تاريخية الى دينية الى اسطورية الى ادبية، ولم تنس ان تخصص فصلا يتناول الظواهر الفنية في هذه التجربة الشعرية حيث تابعت الصورة الشعرية والبناء الدرامي متوقفة عند التعامل مع التراث تضمينا وتناصا، وصولا الى ما اطلقت عليه: الثنائية اللغوية، ثم اتبعت جهدها المشكور ببعض الشهادات الشخصية، دراسة ظاهرة الصور والتراكيب التراثية في هذه التجربة.
والحق أني، كصاحب العلاقة في الأمر، مدين للباحثة بالشكر والامتنان لجهدها الصادق الدؤوب، ولعل هذا النوع من الجهد المخلص يمد المرء بسعادة بريئة ويحثه على استكمال مشروعه الأدبي، يؤكد ذلك أن ما قدمته السيدة الباحثة في كتابها ليس مجرد جهد تراكمي، بل هو ثمرة جهد نبيل ينم عن ثقافة نوعية وذكاء ثقافي لا تخطئه العين الناقدة المجردة.
سعادات البشارة
وكان الكتاب الثاني حول هذه التجربة، بعنوان "سعادات البشارة – رؤية نفسية في المنجز الشعري، للباحث العراقي شوقي يوسف بهنام" وقد اعتمد الكاتب في هذا العمل على ما وصفه بالقراءة النفسية لبعض قصائدي التي بلغ عددها في كتابه هذا، زهاء عشرين قصيدة وهي قصائد مكتوبة على امتداد عمري الشعري، حيث يعنى الباحث بالتقاط الحبل السري الذي يربط قصائدي، منذ قصيدة "الغول" المكتوبة في وقت مبكر نسبيا الى قصيدة "بغير هذا جئت" التي اعطيتها عنوان مجموعتي الرابعة، علما بأن تجربتي المتواضعة تشتمل على اثنتي عشرة مجموعة ما عدا المخطوطات..
واذا كان لي من تذكير بمحاولاتي في هذه المجموعات، فهو اني منذ ان استقام تصوري للشعر. أحاول الخوض في مختلف ايقاعات الشعر العربي، فمجموعتي "واحد وعشرون بحرا" – وهي صادرة عام 1981 – تضم احدى وعشرين قصيدة، كل منها تسير على وزن مختلف، وفي هذه الجولة الايقاعية لم اتنكر لقصيدة النثر، أو قصيدة الدوبيت وهو وزن فارسي في الاصل، ولا اظن ان هذه الجولة الايقاعية نوع من الاستعراض العروضي، بقدر ما هي محاولة مشروعة لاستثمار المنجم الموسيقي الذي تزدهر به المكتبة الشعرية العربية، على انني لست صانع بحور شعرية، ولست مشغولا بتعدد الاوزان، بل هي محاولة للخروج من رتابة الاوزان المحددة، اذ يعلم المختصون ان لدينا ستة عشر بحرا شعريا وان هذه البحور تزداد مع اضافة المجزوءات وبعض المغامرات الايقاعية، واذا لم يكن مطلوبا من الشاعر ان يستخدم هذه الثروة العروضية، فعلى الاقل يظل من حقه ان يأخذ منها ما يشاء.
أما العمل الثالث في هذا الجهد المشكور، فهو بعنوان "التجربة الشعرية عند احمد دحبور" وقد اعده ثلاثة من الباحثين الشباب، هم نعيمة عبد المجيد عفانة، ومها سعدو نور الدين وغسان عبد الحليم النحال، وذلك باشراف د. علي عودة.
يقدم الباحثون مشكورين عرضا لسيرتي الذاتية، متبوعا بفصل عنوانه "التجربة الشعرية عند احمد دحبور" يليه فصل خاص بالموضوعات الشعرية في هذه التجربة ثم فصل خاص بالمؤثرات في هذا الشعر، من التراث العربي الاسلامي، الى الحكاية الشعبية، الى الشعر العربي القديم، وصولا الى الفلكلور الشعبي وما يتضمنه من امثال وعادات شعبية واهازيج فلكلورية ولا املك إزاء هذا الجهد النبيل الا ان اشكر الدارسين المجتهدين مع الاعتراف للاستاذ المشرف عليهم د. علي عودة بجهده الذي طوق عنقي اخلاصا ومحبة. ولفت نظري في هذا الجهد الصادق، ان كلا من الدارسين والمشرف عليهم، قد حرصوا على اشباع الموضوع بحثا ومتابعة حتى ليشعر المرء – مع العرفان والامتنان – بأن الجهد الصادق لا يضيع عندما يعتمده باحثون مجتهدون متابعون مثل هؤلاء الدارسين المخلصين، بل ان هذا النوع من العمل الصادق يلقي مسؤولية اضافية على صاحب العلاقة، أملا بأن يكون عند حسن الظن..
انتصار للحداثة
وعندي ان هذه الجهود المخلصة التي يقدمها دارسون شباب لم أشرف بعد بالتعرف اليهم، انما تشكل بحصيلتها انتصارا يتجاوز الشاعر موضوع الدراسة ليكون انتصارا لمشروع الحداثة، فالقضية تتجاوز الافراد لتتصل بالخطاب العام والسعي المخلص الى الاكتشاف.
وهي مناسبة للاعتراف السعيد بأن هذه الدراسات الشابة، الممتلئة بعرق الجهد الصادق انما تسهم في تقويم التجربة الشعرية بالانتباه الى الجانب المضيء فيها واستدراك ما لم يف بالغرض.. وتبدو الفائدة المركبة من هذا الجهد الجمعي المشكور، في تحويل النص من مجرد مناسبة للقراءة، الى الجدل والحوار حتى مع النص الغائب من مراجع وخلفيات ضرورية في كل تجربة..
فشكرا للدارسين وللاستاذ المشرف..
واذا كان لي من تعليق خجول على هذا الجهد النبيل فهو اني كنت اتمنى من الاستاذ المشرف ان يشجع هؤلاء الشباب الاذكياء على متابعة نقاط الضعف في حال وجودها، لأن النقد – على مهمته النبيلة – لا يقتصر على الكشف عن خصوصية النص، بل ان من حقه استجلاء جوانب العمل كلها سلبا وايجابا والذي شجعني على هذا الاقتراح، هو ما توسمته من ذكاء لدى هؤلاء الدارسين الشباب في استقصاء التجربة الشعرية ومكوناتها.. فاذا عدنا الى موضوع الحداثة، وجدنا ان الاحاطة بهذه القضية الكبيرة تستدعي متابعة النص المدروس بتفاصيله حتى لو تخللها بعض المآخذ او الملاحظات..
لا يحضرني الآن اسم ذلك العلامة الذي قال: ان من نقد اخطائي وانتبه الى اجتهادي انما هو شريك معي في التأليف واخراج النص الى النور..
ان مهمة النقد النبيلة تتركز على التشريح لا التجريح، وان اللبيب من الاشارة يفهم.. ولهذا لا حرج على الناقد الشاب في ان يتناول النص بموضوعية وحزم حتى لو بلغ به ذلك حد القسوة احيانا، مع الاعتراف للنص، بطبيعة الحال، بالجوانب المضيئة التي قد يعثر الناقد عليها، فالنقد ليس تصفية حساب بين الكاتب والناقد، وانما هو مصفاة موضوعية يحتاج اليها صاحب النص والناقد معا..
وأخيرا، هذا أنا بكل تواضع، وحسبي أنني أحاول، إذ قد ينقضي العمر ولا تنتهي محاولاتنا في أن نعرف ونكتشف و.. نتعلم..