عين ارطاس.. نبع للعشاق يثير أطماعا سياسية
أسامة العيسة
في صباح نهار قائظ من "آب اللهاب"، كان أبو أُسيد، يغطس، مع أطفاله، في القناة الصغيرة لعين ارطاس، بعد أن صعد من مناطقة البساتين، حاملا قطوف عنب، وبضع حبات من الخيار، وزعها على أصدقاء له.
تقع قرية ارطاس، إلى الجنوب من مدينة بيت لحم، على بعد بضعة كيلومترات، ولعبت دورا محوريا، في تاريخ القدس، وبيت لحم، والخليل، وأريافها، خلال حقب مختلفة، لكن دورها السياسي تضعضع، في فترات لاحقة، دون ان يؤثر على أدوارها الأخرى، خصوصا ارتباطها في مشروع تزويد مدينة القدس بالمياه، طوال ألفي عام.
قناتان
قبل ألفي عام، جُرت مياه العيّن، عبر قناة طولها أكثر من 8 كلم، إلى حصن الهيروديوم، وفي عهود لاحقة، جُرت مياهها عبر قناة، إلى ما يعرف بوادي الطواحين، على بعد بضعة كيلومترات، مِن العين، وما زالت أثار احدى الطواحين التي عملت بفضل مياه ارطاس موجودة، وبالقرب من العين، توجد بقايا طواحين، وثُبتت على مسجد القرية لوحة تحوي نقشا يعود للفترة المملوكية يتعلق بالطواحين.
استقطبت ارطاس، منذ منتصف القرن التاسع عشر العديد من المبشرين، والسياسيين، والباحثين الأجانب، أشهرهم هيلما جرانفكست، التي وضعت عدة كتب عن العادات والتقاليد الفلسطينية في مجالات مختلفة، من خلال بحث ميداني طويل في ارطاس.
حدد ساكنو ارطاس، من الأجانب، عينها، بأنه النبع المختوم، الوارد ذكره في نشيد الانشاد، أشهر قصائد العشق في العالم، على لسان الملك سليمان، وان القرية هي حدائق سليمان.
لهذه العين أسماء أخرى مثل (عين رمون)، تصل المياه إليها، من الحوض المائي الغربي في فلسطين، عبر قنوات وأنفاق، أجزاء منها محفورة في الصخور، وأخرى مبنية، وهذا ما يمكن ملاحظته من الدخول إلى هذه الأنفاق.
وحسب رائد الأبحاث في الفلكلور الفلسطيني، توفيق كنعان، فانه وجد اعتقاد شعبي بأن عنزتين واحدة سوداء وأخرى بيضاء تسكنان هذه العين.
يقول كنعان: "هناك صلة بين الينابيع المسكونة بالجن والمسكونة بالقديسين، في ذلك الاعتقاد الذي مؤداه ان نبعا ما قد تزوره روح خيرة وروح شريرة" ويدرج هذه العين مع عيون فلسطينية أخرى نظر اليها ضمن هذا الاعتقاد.
شكلت العين، مقصدا، للمتنزهين، من مناطق مختلفة، خاصة من القدس، كما ذكر الموسيقي الفلسطيني واصف جوهرية، بالتفصيل، في مذكراته، عن تلك "الشطحات" إلى عين ارطاس ومنطقتها.
وفي مذكرات المربي خليل السكاكيني، نجد تفاصيل عن "شطحاته" مع حبيبته، وزوجته فيما بعد سلطانة عبده، قرب عين ارطاس.
قضية سياسية
بسبب قربها من البرك، وقناة السبيل، طُرحت أفكار، في عهود كثيرة لسحب مياهها إلى هذه القناة، لكن لا يوجد ما يؤكد أن هذه المشاريع نفذت فعلا، حتى جاء الاحتلال البريطاني لفلسطين في عام 1917، فعمد البريطانيون الذين رابطوا في قلعة البرك إلى إعادة ترميم البرك وقنوات المياه، وحولوا في عام 1925، مياه العين إلى القدس، ما أدى إلى غضب تجاوز قرية ارطاس، ليصبح قضية وطنية.
الباحث الفرنسي فنسنت لومير، أعد دراسة مهمة عن الصراع على المياه في ارطاس، اعتبر فيها ان أزمة شُحّ مياه الأمطار التي ألمّت بالقدس سنة 1925، مثلت "نقطة مفصلية في تاريخ المدينة المقدسة في فلسطين في مرحلة الانتداب؛ ومن الممكن إيجاز الأحداث على النحو الآتي: فقد قررت حكومة الانتداب في الخامس والعشرين من أيّار سنة 1925، في أعقاب شتاء جاف (ممحل)، تحويل معظم مياه قرية ارطاس إلى مدينة القدس، وفي 9 حزيران تقدمت اللجنة التنفيذية في المؤتمر العربي الفلسطيني، باحتجاج شديد اللهجة إلى المندوب السامي هربرت صاموئيل، تعلن فيه عن استنكارها الواضح لهذه "السرقة الصهيونية"، وتم تقديم قضية ارطاس أمام المحكمة العليا في فلسطين، ثم تم تحويلها سنة 1926 إلى مجلس الملك الخاص في لندن، وهو أعلى هيئة قضائية في المملكة. إن هذه المرحلة، والمجهولة عادة من قِبل المؤرخين، تتيح رغم ذلك الإلمام بأهم العناصر المكونة لانبثاق الوعي الوطني الفلسطيني، كما تتيح في الوقت نفسه الإحاطة بعوامل التشرذم التي ألمّت بالحركة الوطنية الفلسطينية في منتصف العقد الثاني من القرن العشرين".
وتمكن أهالي ارطاس، من كسب القضية، وعودة المياه إلى أصحابها، لكن هذا لم ينه المعاناة، فبعد النكبة، اصبحت مياه العين، أيضا، مصدرا مهما لأهالي مخيم الدهيشة، وفي سنوات المحل، شارك آخرون، سكان ارطاس، في مياه العين.
أزمات مياه
يتذكر يوسف سند (أبو خالد) أحد مواطني ارطاس، الازدحام على مياه العيّن في ستينيات القرن الماضي، مشيرا إلى انه بسبب شح المياه في بيت لحم ومحيطها، لجأ صاحب تنكات نقل المياه، إلى عين ارطاس، ونصب خيمة له بالقرب منها، وأشرف على تعبئة المياه، وبيعها للناس في بيت لحم، وايضا نقل الجيش الأردني المياه إلى معسكراته في المحافظة، اضافة إلى اعتماد سكان مخيم الدهيشة على مياه العين.
ويضيف سند: "لم تعد المياه تروي وادي ارطاس، وذهب رجالات القرية إلى عمّان، وقابلوا الملك حسين، وطلبوا منه التدخل، كي تعود المياه تروي السكان والأرض، واستجاب الملك لطلبهم".
العين الآن مهملة، وتحتاج إلى ترميم واهتمام، كما يقول سند. ويقر أحمد إسماعيل، رئيس بلدية ارطاس ان العين بحاجة إلى اهتمام، مشيرا إلى ان البلدية خاطبت العديد من المؤسسات، من أجل ذلك، كي يعود للعين ألقها السابق، وتستقطب المزيد من المتنزهين.
ويشرح إسماعيل، كيف شكلت العين وما زالت الأمن المائي للقرية: "وما زلنا نعتمد على نظام مائي تقليدي، لتقسيم المياه، على أصحاب الأراضي في وادي ارطاس، وهو نظام عادل دورته 12 يوما، ويعتمد الساعة كوحدة، وكل مزارع يعرف حصته ودوره".
ويقول الدكتور وائل حمامرة من وزارة السياحة والآثار: "لعين ارطاس أهمية تاريخية، وتحتاج إلى مزيد من البحث الاثري، كي نتمكن من التعرف أكثر على الدور الذي لعبته في تاريخ القرية والمنطقة".