ثلاثون عاما في مواجهة الريح
- صورة افراد عائلة بشارات التي هدمت قوات الاحتلال منزلهم صباح امس في منطقة الحمرا شرق مدينة نابلس، بعد 33 عاما من سكنهم الدائم فيه...
شادي جرارعة - تضرب ريح قوية أطراف الغرف الحديدية المغطاة بالخيش، وعندما تشتد هبات الريح، تمسك سيدة ستينية بكلا كفيها أطراف الغطاء الخيشي المتحرك وتعيد تثبيته مرة أخرى في قضبان الحديد.
وتبدو حياة زعل بشارات (65 عاما) ضاجة بكل الأعمال التي من شأنها، ليس فقط تثبيت أركان البناء الذي تعرض للهدم أكثر من مرة إما بسبب الرياح الشديدة أو تسلط الاحتلال، إنما أيضا ترسيخ الوجود فوق أرضها.
على بعد أمتار من حاجز 'الحمرا' العسكري الإسرائيلي في منطقة الأغوار شرق الضفة الغربية، يقع المنزل فوق تلة صغيرة. وهو منزل يتكون من غرفة من اللبن وغرف أخرى مسقوفة بالصفيح وعلى طرفه غرفة بنيت حديثا من الطوب.
وتظهر زعل قدرتها الفائقة على إدارة الحياة داخل المنزل وخارجه. وهي مثل أي امرأة فلسطينية أخرى تصارع من أجل الحياة في مناطق الحروب، لكنها تبذل أيضا قصارى جهدها في مواجهة أحوال الطقس المتقلبة.
وحسب إحصاءات فلسطينية رسمية صدرت مؤخرا تبلغ نسبة مشاركة الإناث في القوى العاملة 19.4% من مجمل الإناث في سن العمل.
استقرت عائلة بشارات في هذا المكان قبل ثلاثة عقود وسكنت بالغرفة الطينية التي يعود تاريخ بنائها إلى ما قبل عام 1967، وبعد ذلك قامت بإضافة العديد من المرافق بما يتناسب وازدياد عدد أفرادها داخل ذلك المحيط.
ففي بعض الأوقات كان البناء الجديد لا يتعدي جدرانا من نبات القصب الذي ينمو في الأودية المجاورة.
وتمنع سلطات الاحتلال الفلسطينيين من البناء والتعمير وإقامة مشاريع البنى التحتية في مناطق واسعة من الضفة الغربية. لكن كل ما تقوم به زعل، لا يشير إلى أنها تفكر كثيرا بإجراءات سلطات الاحتلال.
تبدأ بشارات يومها مع أذان الفجر، في حلب الأغنام وتجبين الحليب بمساعدة زوجة الابن، وبعد ذلك تقوم بتحضير العجين وخبزه في الطابون القديم الذي ما زالت رائحته عند المساء تعبق في المكان.
ومع هبوب الريح التي تجلب الزوابع المتكورة، يزداد الإحساس بتلك الرائحة على بعد أمتار من الفرن الطيني.
'الحياة هنا سهلة وجميلة بسيطة في جميع نواحيها، وحتى عندما تشح المياه وتنقطع الكهرباء عنا لفترات طويلة تبقى الحياة جميلة. 'لا شيء يمنعنا من التحرك بحرية داخل منزلنا'، قالت زعل في مساء اليوم الذي سبق قيام جيش الاحتلال بهدم بعض غرف العائلة للمرة الرابعة.
وأضافت: قبل عقد من الزمان كان يعد منزلنا استراحة لجميع الناس الذين عبر الوادي والهاربين من جنود الاحتلال الذين يغلقون الحاجز في وجههم. وفي كثير من الأحيان يتعرض منزلنا للمداهمة والتفتيش عن هؤلاء الأشخاص.
'لكن مهما كانت جنة الأرض جميله ألا أن هناك من يعمل ليل نهار ليخرجنا منها، فخلال ثلاثة عقود من تواجدي هنا تعرض منزلنا للهدم ثلاث مرات'.
ولا يقتصر ذلك على هدم المنزل الإسمنتي فحسب، بل يصل الأمر إلى هدم أي شيء قائم.
قالت زعل: كانوا يهدمون كل شيء (...) حتى جدران القصب دمروها. يتعرض منزلنا للعديد من الاعتداءات من قبل جيش الاحتلال من أجل إخراجنا من منزلنا وإقامة مكانه برج للمراقبة يطل على الطريق الالتفافي وحاجز الحمرا.
من أعلى التلة التي تضربها الريح طيلة فترات العام، تظهر المستعمرات اليهودية التي تتوسع يوما بعد يوم، وفي الأسفل يمكن النظر إلى رتل المركبات التي يجري تفتشيها على الحاجز العسكري.
طيلة كل تلك السنوات التي جاهدت فيها زعل لتوسيع مساكن أبنائها، عملت أيضا على زراعة الأشجار على سفوح التلة، لكن الأبناء الذين ضاق بهم المكان، غادروا وبقي واحد منهم فقط.
'خرج أولادي بعد التعرض لعملية الهدم الثالثة وسكنوا في بلدة طمون ولم يبق معي هنا غير ابني محمود وابنتيه وزوجته وابنتي. تعرضنا خلال الفترة الماضية للكثير من الحوادث المؤسفة كان أقساها عندما فقدت ابنتي وحفيدتي في حادث وقع بالقرب من قرية النصارية'.
'نحن الآن في هذه الأثناء ننتظر الهدم الذي أخبرونا عنه منذ عدة أيام، ولكن لو قدموا إلينا وهدموا منزلي مئات المرات لن أرحل وسأعيد بناء منزلي بيدي فهذه الأرض لي وهذا منزلي'، قالت زعل بتحدٍ.
في صباح اليوم التالي لذلك المساء الذي كانت تشد فيه زعل أطراف الخيش إلى الأعمدة الحديدة، حدث ما كانت تتوقعه. لقد وصلت الجرافات كالعادة وأطاحت بتلك الغرف.
في ذلك المساء قالت زعل لمراسل 'وفا': جيش الاحتلال قام بهدم منازلنا وقمنا ببنائها مرات عديدة طيلة العقود الثلاثة الماضي، وخلال الأيام القادمة إذا هدموا مرة أخرى سنبني البيت من جديد'.
تبدو رحلة المرأة في قلب هذه الجبال، أشبه بمواجهة شاملة مع متغيرات الطقس وما يجبله من ريح، ومع ثوابت الاحتلال التي لا يترك فيها المنزل على حاله إلا ويهدمه.
'لكننا نقوم بالبناء مباشرة بعد كل هدم بما يتوفر لدينا من مقومات للبناء، فبعض الأحيان نقوم بالبناء من القصب ومرات أخرى من الصفيح، ومرات أخرى من الطين المجبول بالتبن'، قالت المرأة فيما كانت تعدّ الفرن لجولة أخرى من الخبز في الصباح التالي.
ويظهر البناء الطيني وقد جدد رصفه وبناؤه أكثر من مرة خلال العقود الماضية. طبقات الطين الجاف تظهر متفاوتة في السمك واللون.