ثائر البرغوثي.. لهيب الأغنية الثورية في انتفاضة الحجارة
يامن النوباني
لأن الأغنية لا تصمت أبدا، كانت الأغنية، وكانت القصيدة، وكان الموال، اللهيب الذي يُسير انتفاضة الحجارة 1987 إلى مجدها، والنغم الغاضب الذي يسري في قلوب أطفال الشوارع والحواري والأزقة، فيمنحهم القوة في المواجهة، وتحدي الجيبات العسكرية والسلاح المتطور والرصاص الفتاك بالحجر والأجساد العارية، وحين يستشهد أحدهم يُغنى له: 'رجع الخي يا عين لا تدمعي لو.. فوق كتاف رفقاتو ومحبينو.. رجع الخي يا يما زغرديلو.. الشهيد دمّاتو دين علينا'.
يقول المهندس ثائر البرغوثي، 46 عاما من كوبر في رام الله، لـ'وفا': في أحد أيام شتاء 1988 دخلت برفقة خمسة من أعضاء فرقتي التي شكلناها سرا، إلى غرفة صغيرة في بيت قديم من بيوت القدس، لتسجيل كاسيت 'دولة'، وهو عشر أغنيات أبرزها: شدي يا انتفاضة، ثوري يا ضفتنا، نزلوا صبايا وشبان، والطائرة الشراعية اللبنانية، وبضع مواويل، كتبها والدي راغب البرغوثي، والذي كان زجالا، وشقيقي منذر البرغوثي، وخلال ساعات قليلة أنهينا التسجيل وقمنا بإخلاء الغرفة لئلا يُكتشف أمرنا، حيث كانت الأغنية تُهمة تقود من يكتبها ومن يغنيها وحتى من يحتفظ بها إلى سجون الاحتلال.
'شدي انتفاضة شدي على الاحتلال.. يا نار الثورة لا تهدي حتى الاستقلال.. يا شعبي شد الايادي خلف القيادة.. ثورتنا بتقوى بزيادة وبتغير هالحال'، كانت الاغنية الأجمل في تلك الفترة كما يقول مُنشدها ثائر البرغوثي، منوها إلى أن ألبوم 'دولة' لم يحمل اسمه أو اسم فرقته 'جفرا'، واكتفى بوضع اشارة النصر على الكاسيتات كعلامة مميزة، وذلك بسبب الوضع الأمني والقيود سلطات الاحتلال، في زمن كانت فيه الأغنية أداة تحريضية لها صداها ومفعولها القوي على الجماهير.
ويضيف، لاقى الألبوم شهرة واسعه بسبب التعطش للأغنية الوطنية، فالأغنيات العشرة كانت تُحاكي يوميات الانتفاضة ومنبرا للتعبير عن البطولات ورفض الاحتلال، وتقترب من هَم الناس وتلامسه، وتُحرك جماهير الشارع، وتحدد أهداف وطنية في مرحلة سياسية مهمة، وتنشر بيانات فصائلية وتنظيمية، تُنظم الفعاليات الجماهيرية والاضرابات التجارية، فتهب الناس بحالة عفوية، وكان العمل التطوعي هو ما يميزها، ويُعليها، فقد كانت الجماهير هي القيادة، وتشد على يد القيادة، فكان 'دولة' عهدا ووعدا للقيادة وللراحل ياسر عرفات، لحظة اعلان الاستقلال في الجزائر عام 1988.
وحول الفرق بين الأغنية الوطنية قديما وحديثا، قال البرغوثي: الهَم الأساسي للناس تغير، كان همهم الوحيد التخلص من الاحتلال، الآن هناك انفصام في الأغنية الوطنية، حتى لو بدا ذلك طفيفا، فالأغنية الوطنية اليوم تستخدم كأداة فنية موسيقية بحتة، في المقابل كانت الاغنية الوطنية القديمة، أغنية احساس لا تُرغب إلا بخلق حالة ثورية، وتحريض وتجييش الجماهير على حالة معينة، كما حدث في أغنية بيت ساحور، حين اشترى الأهلي '18' بقرة، لتحقيق الاكتفاء الذاتي لأهل البلدة وأعلنوا مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، ففرض عليهم الاحتلال دفع الضراب، واقتحم المزرعة التي أُخفيت فيها الـ18 بقرة.
ويرى البرغوثي أن الأغنية الوطنية لم تفقد حماستها، حتى وإن خفت نجمها قليلا، فذلك يعود للحالة التي يمر بها شعبنا، حيث الوضع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والفكري تبدل، في حين كان الاحتلال في سنوات الانتفاضة الأولى هما شعبيا وجماعيا ووحيدا، وكانت الحالة الثورية مفعمة بالسعي للتحرر، وفي أحد المرات اقتحم ملثمون مناسبة كانت تغني فيها فرقة جفرا في مدينة البيرة، حيث كانت الأغاني في الأعراس متوقفة بأمر من جماهير الانتفاضة، وحين وجدوا أن المحتوى هو وطني بحت، انسحبوا.
كانت الأغنية حالة وطنية وثورية، تُعبر عن الشارع، والهَم الجماعي، وأداة ثورية حقيقية، وكانت 'يا ضفتنا ثوري ثوري، ويا غزتنا شدي الحيل ويا ساعة شعبنا دوري، لفي برد وعتم الليـــــل' تُسمع في جبال سلفيت ورام الله ونابلس وجنين وكامل مدن الضفة في مواسم الزيتون، تزيد لهيب الانتفاضة اتقادا، وتدعوها للاستمرار والمد، وتقوي عزيمة الشبان، وكان المغني لا يتوقف عن مد الشارع بذلك الوهج الثوري، فكتب ثائر من خيمة معتقل النقب – أنصار- في العام 1990 : من بين خيام الصحرا، ومن قلب العيشة المرة.. يا زنود رفاقي السمرا علي في أنصار آه يا أنصار.. شدو يا رفاقي شدو وسجن الغاصب بنهدو.. في عناتا ومجدو وعوفر وأنصار آه يا أنصار.