شهيد كفرراعي.. بيتٌ لم يكتمل وقهوة محمد الحلوة شربناها مُرّة
رحمة حجة - بيدها اليُمنى، أحاطت مسعدة عُنقَ والدتها، وبكفّ يُسراها أمسكت كفّ عمّتِها، ودمعاتُ الثلاث تنساب على وجناتهن بصمت، الذُهول سيّد الموقف، وعيونهن متربّصة بباب البيت الذي سيدخل محمد منه للمرة الأخيرة، محمولًا، بعد أن خرج منه على قدميه مُتلهّفًا لأيام عملٍ جديدة في رام الله.
التهليل والتكبير تصاعد من أفواه النساء اللاتي يملأن ساحة البيت، وعلا معه صوتُ بُكاء أم محمد وأخته وعمته وخالته وزوجة عمه وابنة عمه والعديد من قريباته، حين صار محمد مسجًى بينهن، ليكتملَ مشهدُ الصّراخ والعويل، وتصطاد كاميرات الصحفيين منه أفضل اللقطات، ورُبّما أفجَعها!
محمد الأطرش (25 عامًا)، غادر بيته في بلدة كفرراعي (جنوب غرب جنين) الأحد الماضي، الى رام الله، وعاد إليه، أمس الثلاثاء، شهيدًا برصاص جنود الاحتلال على حاجز "زعترة".
هكذا قتلوه
في رواية متطابقة لعمّة الشهيد جهاد مصطفى، وابنة عمه إسراء الأطرش، كان الشهيد محمد، يعملُ مثل باقي إخوته الذكور الثلاثة، في ورش الدهان، مع عمومته وأبنائهم، الذين يتنقلّون بين رام الله وقرى وبلدات فلسطينية عديدة، وفق الفُرَص المتوفرّة.
ويوم الأحد، سافر محمد إلى رام الله، بعد غياب نحو ثلاثة شهور عن العمل.
لكن وجعًا أصاب قدَمي محمد ليلة الأحد، فقال لابن عمّه "الحل هو العودة للبيت والبقاء بقُرب أمي، كما أنني نسيتُ بطاقة الهوية مع أبي، سأحضرها وأعود قريبًا". وبالفعل، عاد محمد إلى كفرراعي صباح الاثنين، ليُوقف جنود الاحتلال المركبة العمومية التي يستقلها، ويسألون الشبان من الركاب عن بطاقات الهويّة، ليخبرهم محمد أنها ليست بحوزته.
أنزل الجنود محمدا من المركبة، ثم تبادلوا تعليقاتهم الساخرة حوله، وأثناء استفزازهم له، وبسبب درجة الحرارة المرتفعة، مدّ محمد يده نحو حقيبته لتناول زجاجة ماء، وقبل أن تعود يده إليه صوّب الجنود رصاصهم نحوه، بدءًا من قدميه حتى صدره، فقتلوه في موقعه، ثم سحلوه في مساحة الحاجز.
شاهد عيان قال لـ"الحياة الجديدة"، إنه يفهم اللغة العبرية، وقد وصل في مركبته الشخصية بالتزامن مع وصول سيارات الإسعاف حاجز "زعترة" قرب نابلس، فسمع الحوار بين الجندي الذي قتل محمد والضابط المسؤول هناك، وكانت حُجّة الأول في القتل أن "محمد قام بحركة مشبوهة"، وهذا يتفق مع رواية شاهد عيان آخر لإذاعة "صوت فلسطين" كان يستقل ذات المركبة مع محمد عندما قتلوه أمامه.
في تمام الساعة الواحدة والنصف من فجر أمس الثلاثاء، اقتحم جيش الاحتلال بنحو 25 آلية عسكرية كفرراعي وداهموا بيت الشهيد، الذي ظلّ جسده في مستشفى جامعة النجاح. وفي البيت، حقق ضباط الاحتلال مع والد الشهيد بسام وعمّه، وفتشّوا منزل الأخير، وكان محور حديثهم كما تقول العمّة جهاد أن "محمد منخرطٌ في صفوف حركة الجهاد الإسلامي، وقام برفع السكين على الجنود عند الحاجز لذلك قتلوه"، بينما نفى والده الأمر بشكل قاطع، وقال لهم "توجد كاميرات مراقبة عند الحاجز، تستطيعون التأكّد منها. ابني شاب مسالم ولا ينتمي لأي حزب، وكان بمقدوركم أن تصيبوه في قدميه لا أن تقتلوه".
بعد التحقيق خرج جنود الاحتلال من منازل العائلة قرابة الساعة الثالثة والنصف فجرًا.
"المسخن" آخر وجباته
الشهيد محمد هو بكرُ والديه إلى جانب أخيه التوأم محمود. لم يُكمل وإخوته دراستهم، إذ التحقوا باكرًا بصفوف العمّال، ومن ورشةٍ لأخرى يكدّون يوميًا، لإعالة أسرتهم، وبناء بيوتهم التي أنجزوا منها الطابق الأول، وهو بيت محمد. شأنهم في ذلك، شأن آلاف الشُبّان الفلسطينيين الذين شبوا في سوق العمل قبل أوانهم.
أختهم الوحيدة مسعدة (23 عامًا)، هي فقط التي أتمّت تعليمها في كليّة الطيرة، وتعملُ منذ تخرّجها قبل ثلاثة أعوام في روضة أطفال، لتقرر الالتحاق بالجامعة هذا العام من أجل الحصول على درجة البكالوريوس.
تقول ابنة عم الشهيد، إسراء، بينما الدموع تزيد صوتها ارتجافًا "وعد محمد أخته مسعدة بشراء هاتف آيفون هديةً لها، كما وعدَ أمه أنه في حال استلامه راتب الشهر المقبل فسيجري التحليلات الطبية لها لأنها تعبت مؤخرًا كثيرًا"، علمًا أن والد الشهيد أجرى حديثًا عملية القلب المفتوح، وهو متعطل عن العمل.
سألنا العمّة جهاد عن المرة الأخيرة التي التقت فيها الشهيد محمد، فجرت دمعاتها على خديها، وخفت صوتها، وقالت "يوم الأحد اجتمعت العائلة في بيتهم بمناسبة قدوم خالته من أبو ظبي، وكان الغداء مسخّن. محمد أراد الذهاب إلى رام الله قبل تناول الغداء، لكننا أجبرناه أن يتناول غداءه أولًا، فلا سبب يدعوه للاستعجال".
وفيما هي تستذكر مناقب محمد، داخل غرفة مكتظّة بنسوة القرية الصامتات منهن والمعرب بعضهن عن حزنه بالدموع والحوقلة، كانت والدته ربيعة، تجلس قربنا تبكي دون صوت. ولم تقل سوى جملة واحدة حين سألتُ عن مكان نومه، حيث أشارت بيدها إلى جانبها الأيسر وقالت "هنا"، أي في غرفة استقبال الضيوف.
أخرجت خالة الشهيد هاتفها النقال لترينا صورة التقطها محمد للعائلة وقت تناولها "المسخّن". وهي القادمة من أبو ظبي، وجاءت لتفرح بإجازة صيفية مع العائلة وتشارك في حفل زواج ابن عمة محمد، لكن أيّ فرح هو الذي يكتملُ بوجود الاحتلال!
تقول العمّة جهاد، في لحظة بُكائية غاضبة اثناء انتظار وصول جثمان محمد "كل فرحنا بحسين انقلَب علينا". وتستذكر إسراء وجه محمد الضحوك في "التعاليل" التي سبقت زواج ابن عمّته، وهو يُصفّق ويُغنّي.
تجلس إسراء إلى جانبي، نُطلّ من بيت الشهيد على أراضي كفرراعي المزروعة بأشجار الزيتون في معظمها، وتؤشّر بيدها نحو بيت محمد غير المكتمل بناؤه، وتتسرّبُ من ذاكرتها بعضُ الصور عن حياته، ثم تقول بابتسامة حزينة "كان يحب القهوة الحلوة، لم يشربها أبدًا مُرّة".
بعض جارات عائلة الشهيد، بدأن أيضًا باسترجاع الصور، فتقول إحداهن: "كان محمد مسالمًا جدًا. يغيب شهورًا في رام الله ولا نراه إلا قليلًا. كان خدومًا يساعد كل من يطلب المساعدة".
إحدى هؤلاء الجارات قالت لـ"الحياة الجديدة": "زوجي كان في الأردن، وحين سمع بخبر استشهاد محمد أتى فورًا"، وتجلس بجانبنا. أقول أثناء حديثنا "الله يصبّركم.. لا نستطيع سوى الصبر"، فتقول بنبرة حزينة يعلوها شيء من الغضب، بلهجتها المحليّة "تشــــرهنا (كرهنا) الصبر قدّ ما اتحسّرنا".
عبر الزقاق الموصل إلى بيته، حُمل محمد إلى مثواه الأخير في مقبرة البلدة المجاورة لمدرسة مسقط الأساسية للبنات، وهناك أقيمت عليه صلاة الجنازة. مُفارقة واضحة بدت هناك، فمئذنة الجامع تطلّ على المدرسة، والمدرسة تُطلّ على المقبرة، وتجاور المقبرةَ قاعةُ أفراح، اختصار غريب لمسيرة حياة.