إلى عكا وكُلّي اشتياق
الجزء الأول
رحمة حجة- إنها زيارتي الثالثة لعكا، وفي كلّ مرة تختلف هواجس المسافات المقطوعة بينها ورام الله. وإذ يتكرر السفر إلى المكان ذاته، لا بُدّ من انتقاء الجديد والمختلف، حتى لا تنطفئ لوعة الشوق بين جوارحنا، ولا نفقد ملامح الانبهار.
أزمة حاجز "قلنديا"، ومنعنا عن حاجز "حزمة"، وقفا عائقًا أمام تقدّمنا إلى القدس، حتى مررنا عبر حاجز "الزيتونة" في العيزرية (2 كلم شرق القدس)، وأيقنّا أخيرًا، أننا في القدس.
يمين شمال
تبدأ الرحلة بسماع "ميدلي (مزيج) عكّاوي" يُطلّ عبره صوت مراسلة فضائية رؤيا الأردنية، المقدسية الجميلة زينة صندوقة، عذبَة الحديث، وصاحبة الأسلوب اللبق في التعامل مع الناس بمختلف فئاتهم. أنا شخصيًا أحب تقاريرها عن المدن والبلدات الفلسطينية أكثر من أي شيء آخر تقوم به .
تتلوها أغاني فرقة "ولّعت" العكاويّة، من "حب ع الحاجز" و"عكا على راسي" حتى "لو شربوا البحر"، وغيرها من الأغاني الحديثة أو القديمة المُحدّثة، لم يرق لي منها الكثير.
في الباص كنا من جنين ونابلس وطولكرم والخليل والقدس ورام الله، بعضنا زار عكا وحيفا سابقًا، والآخر يراهما لأول مرة، وبيننا الشاب بنان والشابة آية اللذان سيُبصران البحر لأول مرة، بالإضافة إلى أشخاص سيطؤون لأول مرة الأراضي المحتلة عام 48، وآخرين يشاركون مجموعة "كزدورة وصورة" جولاتها للمرة الأولى أيضًا.
"على يمينكم.. على شمالكم"، هذه العبارة التي كانت تنتهي باسم مكان أو معلم هام على جنبينا، كانت تردنا من صوت الشاب جعفر الزعبي، وهو من طولكرم، الذي يبدو أنه حفظه لكثرة ما زار فلسطين48 وروى تضاريسها.
محظوظةً كنت لأنني أجلس في الشمال، حيث أكثر الأماكن هناك. إضافة لأنني رغم سيري في ذات الطريق مرتين، لم أتعرف تلك الأماكن سابقًا.
يقول جعفر في الطريق من القدس إلى حيفا: "قرية لفتا المهجّرة يمينًا.. دير ياسين اللي صارت فيها المجزرة شمالًا.. بيت اكسا ع اليمين.. مشروع إقامة جسر للقطار السريع يربط بين القدس وتل أبيب بمسافة زمنية قدرها 28 دقيقة شمالًا.. مستشفى هداسا عين كارم وجبال عين كارم شمالًا.. قلعة القسطل اللي استشهد فيها عبد القادر الحسيني شمالًا.. قرية أبو غوش شمالًا.."
نصل إلى محطة وقود إسرائيلية لاستراحة قصيرة، يقول عندها جعفر "نحن الآن في النقطة الفاصلة تمامًا بين الأراضي المحتلة عام 48 ونظيرتها عام67".. يا للمُفارقَة! أفكر..
نتوجّه إلى دورات المياه العامّة في المحطة، كأننا نُبوّل على تاريخ كامل من الهزائم، أو على زمنٍ من حرائق العالم التي كنا وما زلنا وقودها الذي لا يَنضَب!
يعود الصوت قبل أن يتحرّك الباص من المحطة "سترون إلى اليمين دبابات مدمرّة هذه من بقايا الجيش الأردني في حرب حزيران 67".
أما الشارع الذي يعتليه باصُنا، فاسمه "شارع 6" وفق قول جعفر، مضيفًا "يُسارُ عليه مقابل المال، إذ يصل بين جنوب فلسطين48 وشمالها، وتصل فواتير المركبات التي تستخدمه إلى بيوت أصحابها شهريًا".
يُكمل: "شركة نستلة وشتراوس وأوسم شمالًا.. كفر قاسم يمينًا.. جلجولية شمالًا.. جدار الفصل العنصري مغطىً بالأشجار يمينًا، وهو يفصل قلقيلية عن أراضي48، ويوجد هناك حاجز أيال".
وإلى شمالنا بيتٌ ينتصبُ وحيدًا، كان جزءًا من قلقيلية، وحين تم بناء الجدار خُيّر صاحبه بأن يبقى هنا أو يعود، فبقي ويحمل الآن الهوية الإسرائيلية، حسبما أوضح جعفر.
على جانبينا المنازل قليلة، لكن مساحات شاسعة من الشجر تخترق زجاج نوافذ الباص، أقلّب في ذاكرتي أسماء الأشجار المحيطة فلا أستدلّ سوى الزيتون والكينا والسرو، كما توجد مجموعة من أشجار الصبر عند أطراف الجسور المعلقة فوقنا، وأخرى ممتدة بين الحقول، يبدو أن أحدًا لا يقطفها حيث الثمار "خربانة ع إمها".
وبين كل أغنية وفكرة، يستوقفنا جعفر، الذي تابع: "طيرة المثلث شمالًا.. طيبة المثلث يمينًا، وتمتد حتى تصل طولكرم على طول جدار الفصل.. قلنسوة شمالنا.. جت وباقة الغربية يميننا.. نزلة عيسى يمينًا.. محطة الخضيرة لتوليد الكهرباء وهي عبارة عن 4 أبراج تظهر لسكان الضفة من نابلس وطولكرم وإذا كانت السماء صافية تظهر لسكان رام الله.. أم الفحم وعارة وعرعرة يمينًا..".
تراودني فكرة قد تكون مطروقة لكنها موجعة. كيف لنا أن نسير على شوارع فلسطين48 محاطين بكل هذا التاريخ من النكبة والاستعمار والمدمّر والمُحدّث والزائل والباقي، وفي ذات الوقت نرى مدنًا من شمال الضفة ترتاح على كتف الطريق، وهي البعيدةُ جدًا في البال حين نودّ مغادرتها إلى الداخل، وقريبةٌ إلى هذا الحد حيث نحن فيه.
وفي لحظة مفاجئة، يصبح اليمين والشمال واحدًا، هو الكرمل وجبالها.
نمرّ أيضًا على قرية عسفيا، وهي وفق جعفر "درزية"، ووفق ذاكرتي جميلة هادئة مكللة بالشجر والحب، إذ استيقظتُ فيها ذات فجرٍ لم يتكرر، ورأيتُ فيها الندى يغطي أشجار الكرمل من نافذة البيت الذي استضافني يومها.
وخلال هذه المُراوحة والمراوغة بين اليمين واليسار، قرر نابلسيٌ في الباص إمتاعنا بأهازيج فلوكلورية تعود لطقس ما يسمى "السوق نازل" في نابلس.
وموسم هذا السوق يبدأ بعد رؤية هلال شهر رمضان، إذ يهرع الأطفال خارج منازلهم فرحين مستبشرين مرددين "أثبتوها أثبتوها" بالألف النابلسية المائلة، ويسرعون إلى أهاليهم طالبين المال لينفقوه في شراء ما يحلو لهم. ويجتمع الأطفال في مواكب تزيد عددًا كلما استمرّ السير في شوارع البلدة القديمة، يرددون مدائح خاصة بشهر رمضان، ويتلقون الهبات والعطايا من الناس حتى الوصول إلى عمق الأسواق "السوق نازل" لشراء الحلوة بالمال الذي حصّلوه. (مجلة سيدتي)
يواصل جعفر: "دير المحرقة شمالًا.. شركات ومصانع هاي تك شمالًا.. يافة الناصرة والجليل شمالًا..مجموعة قبور منها قبر الشهيد عز الدين القسام شمالًا".
ويُعتبر دير المحرقة من أهم المواقع الأثرية في قرية "أم الزينات" الواقعة على حافّة هضبة الكرمل الجنوبية وتُطل على البحر الأبيض المتوسط من الغرب (جمعية أم الزينات)
في هذه الزيارة تُضاف أماكن إلى القلب وأخرى تُنعش الذاكرة، فلفتا التي تزين شمال الطريق صامدة ببيوتها المهدمة كأنها قلعة شامخة، تدعونا إلى دقائق من العناق، ويافة الناصرة بلد صديقتي روزين، إذ تُطلّ ضحكتها كلما أسمع فيها اسم اليافا..