علم فلسطين.. من أعمدة الإنارة والجدران إلى الأمم المتحدة
يامن نوباني
حاولنا صده عن النزول بالعلم الذي سهر ليال في إنجازه، لأننا كنا مدركين خطورة ذلك في تلك المرحلة، فكان رده: 'لا يهمني الموت. يهمني أن أرفع هذا العلم وسط رام الله غداً'، وفي صبيحة اليوم التالي 5-10-1989، استشهد محمد الدحين من مخيم قدورة، بعد أن مشى أمتاراً قليلة بعلمه الكبير، والذي صنعه بنفسه، خلال تظاهرة مؤيدة للانتفاضة، يقول الأسير المحرر اصرار سمرين.
مع اندلاع شرارة انتفاضة الحجارة نهاية العام 1987، كان العلم الفلسطيني بألوانه الأربعة، المقسم أفقياً إلى ثلاثة أقسام متساوية متوازية: الأعلى أسود، والأوسط أبيض والسفلي أخضر، مع مثلث أحمر من ناحية السارية قاعدته مساوية لعرض العلم وارتفاعه مساوٍ لنصف قاعدة المثلث، محرما على الفلسطيني، في بيته وسيارته وعمله، وقرار حمله واقتنائه يكلف صاحبه كثيرا، كالاستشهاد، والاعتقال والضرب، والملاحقة المستمرة بحجة حيازة مواد تحريضية ضد الاحتلال.
كانت عملية صنع العلم الفلسطيني مغامرة، تحتاج لدقة وحذر كبيرين، يقول أمين سر حركة فتح في رام الله، موفق سحويل، مضيفا: كانت أمهاتنا وشقيقاتنا من يصنعن لنا الأعلام، بعد فرط ملابسنا واستخراج الألوان الأربعة من قماشها، بسبب قلة وجود الأقمشة، والخشية في ذلك الوقت من المتاجرة بها، وكنا نرفعها في مناطق حرجية ومناطق نائية وبعيدة، خشية أن يلاحقنا الاحتلال أو يصادرها. لا يكاد أحد من الذين شاركوا في فعاليات الانتفاضة الاولى، لم يشهد موقفا يخص العلم الفلسطيني.
يقول سحويل: في 18-5-1988 كنا مجموعة شبان نلقي الحجارة على جنود الاحتلال في قرية عبوين، وكان معنا الشاب محمد هلال، والذي لم يكن باستطاعته رمي الحجارة، فحمل علم فلسطين وسار معنا، فباغته الاحتلال برصاصة في الصدر واستشهد.
يتربى الفلسطينيون جيلا بعد جيل، على عشق العلم الفلسطيني، والتضحية في سبيل إظهاره، ويدفعون من دمهم وأعمارهم وأموالهم ووقتهم مقابل رفعته وهيبته، لأنه في نظرهم رمز التحرر والكرامة والاستقلال. لم يكن هلال والدحين شهداء العلم فقط، فقد سبقهم إسحق أبو سرور، ففي 29-10-1987 صعد إسحق فوق أسوار جامعة بيت لحم ليرفع علم فلسطين، قبل أن تسقطه رصاصة في الرأس شهيدا، في سنته الدراسية الرابعة، كما تقول قريبته ريان إبراهيم.
وتختلف طرق وأساليب الدفاع عن العلم الفلسطيني، فعبد الله ريان، من قراوة بني حسان في سلفيت، استشهد عام 2013 أثناء محاولته رفع علم فلسطين على عمود إنارة، كما حاتم الأسدي نتيجة إصابته بصعقة كهربائية أثناء قيامه برفع العلم على عمود الضغط العالي في خان يونس، واستشهد مصطفى الأسطل بعد أن أطلق الاحتلال النار عليه، أثناء صعوده لرفع العلم على مئذنة المسجد الكبير في خان يونس، وشاب في يتما نتيجة صعقة، وآخر طلب منه الجنود تسلق مكان عال لإنزال العلم فسقط شهيدا، واستشهد آخرون فداء ودفاعا عن العلم.
ويتذكر نشطاء الانتفاضة الأولى حين كانوا أطفالا يرمون العلم على أسلاك أعمدة الكهرباء، بعد شده بحجر، حيث يعجز الاحتلال عن الوصول إليه وإسقاطه، ورفعه فوق مآذن المساجد أيضا، بينما كان الاحتلال يسارع لاقتحام المنطقة وإجبار الأهالي على الصعود للمئذنة وإنزال العلم، كما يتذكرون رسمه بالطباشير والألوان على الجدران، قبل أن يقتحم الاحتلال البيوت طالبا من الشبان طلاء الجدران من جديد.
أدت تلك التضحيات إلى ظهور علم فلسطين في مختلف أنحاء العالم، وفي مناسبات عديدة ومهمة، وخلق مناصرين كُثر للقضية الفلسطينية، ودول وشعوب مؤمنة بعدالتها، واصطفاف حركات التحرر في العالم إلى جانب حركة التحرر الفلسطيني في وجه الاحتلال الإسرائيلي، الذي يحاول طمسه ومحوه منذ ما يزيد عن 68 عاماً، لكن فجر العلم الفلسطيني، سيبزغ يوما ليضيء قبور الشهداء وعتم الزنازين.
ويتطلع الفلسطينيون إلى رفع علمهم الوطني أمام مقر الأمم المتحدة في نيويورك، حيث من المفترض أن يجري تصويت في العاشر من الشهر الجاري على مشروع قرار ينص على رفع أعلام الدول المراقبة في مقر الأمم المتحدة ومكاتبها.