صرخة الأسيرة لينا الجربوني: لا تتركوني
د. فيحاء قاسم عبد الهادي
انتابتني مشاعر متضاربة، بينما كنت أشارك شعبي فرحته العارمة، باستقبال الفوج الأول من الأسرى المحرَّرين. وأحسست أن الحدث يحمل من المشاعر أكثر مما أحتمل؛ فالتزمت الصمت.
لم يخرجني من صمتي سوى كلمات خرجت من فم الأسيرة المحرَّرة "قاهرة السعدي"، لحظة استقبالها: "إنتوا نسيتوا الأسيرات"! لقد تركتُ الأسيرة "لينا الجربوني" وحيدة، وهي عاتبة عليكم، وتقول إنكم نسيتوها. وتساءلت: أين رجال الإعلام؟ أين الكتّاب؟ أين التنظيمات كافَّة: الجهاد الإسلامي، وحماس، وفتح، والجبهة؟ أينكم؟ "لا تتركوني وحدي".
هزَّتني كلمات المناضلة التي قهرت السجن والسجّان، والتي لم تهرع للقاء أحبتها فور خروجها من الأسر! رغم معاناتها طيلة تسع سنوات، حين حرمت من معانقة صغارها الأربعة، وحرمت من أبسط حقوقها كأسيرة حرب! بل كان جلّ اهتمامها هو تركيز الأنظار على الأسيرة لينا، التي تركتها خلف القضبان! مؤكِّدة أن الأسيرات هن أسيرات حرب؛ ولسن إرهابيات:
"تطلب الأسيرات الإجابة من الحكومة الفلسطينية، والعالم العربي، ولجان حقوق المرأة العربية، والعالمية، أين نحن منكم؟! نعم، أين نحن منكم؟ سؤال لا نريد أن تجيبونا عنه إلاّ بالفعل.. نحن أسيرات حرب لا إرهابيات كما يدَّعي الاحتلال، فمن واجبنا الدفاع عن وطننا أكثر لضمان العيش الكريم لأولادنا".
*****
وتطلق الأسيرة المحرَّرة "إيرينا سراحنة"، صرخة لا تختلف عن صرخة قاهرة. فعلى الرغم من الإفراج عن المناضلة الأوكرانية / الفلسطينية، بعد تسع سنوات من المعاناة داخل المعتقل، وحرمانها من معانقة بناتها؛ إلاّ أنها تقول إن فرحتها منقوصة، فقد بقي في الأسر، زوجها إبراهيم، الذي يواجه حكماً بالسجن المؤبد، وبقيت في غياهب السجون، تسع من رفيقاتها، خاصة الأسيرة لينا:
"فرحتي كبيرة؛ ولكنها منقوصة، بعدم الإفراج عن كافة الأسيرات، وخاصة الأسيرة "لينا الجربوني"، والتي تقضي حكماً طويلاً، وتبقَّى لها أكثر من تسع سنوات في الأسر".
*****
"لينا أحمد صالح الجربوني"،
واحدة من الأسيرات التسع، اللواتي لم تشملهن صفقة المبادلة، بينهن اثنتان، إلى جانب لينا، من عمق فلسطين: "ورود ماهر قاسم"، من مدينة الطيرة، معتقلة منذ تاريخ 4/10/2006م، وتقضي حكماً بالسجن ست سنوات، و"خديجة أبو عياش"، من قرية عيلوط، وهي معتقلة منذ 3/1/2009 ومحكومة بالسجن ثلاث سنوات.
"من عرّابة البطوف، وهي إحدى القرى الفلسطينية، القريبة من مدينة عكا. عملت في مشغل خياطة، لمساعدة أسرتها، عندما لم تستطع استكمال دراستها الجامعية، بسبب ضيق أحوال أسرتها الاقتصادية، كما تلقَّت دورة تدريبية، في تخصص السكرتاريا الطبية، في مدينة الناصرة.
عاشقة الأطفال، ودودة الكتب، أحبَّت الأطفال كثيراً، وكانت تعتبر أولاد إخوانها وأخواتها كأنهم أبناؤها.. كانت تُسمى بين أفراد العائلة بـ (دودة الكتب)، وذلك في إشارة إلى عشقها قراءة ومطالعة الكتب بمختلف أشكالها، وقد استمرت لينا في هذه الهواية حتى وهي داخل سجنها في "هشارون"، وهي واحدة من ممثلات الأسيرات في السجن، حيث كلَّفتها أخواتها الأسيرات مهمة تمثيلهن، والتحدث باسمهن أمام إدارة المعتقل، هذا بالإضافة إلى دورها المحوري في تعليم بقية الأسيرات اللغة العبرية، وهي اللغة التي تتقنها لينا بطلاقة.
صاحبة أحاسيس ومشاعر فياضة، كانت تتألم كثيراً وتبكي عندما تشاهد منظر الشهداء، وخاصة الأطفال منهم، الذين سقطوا على يد الاحتلال، خلال انتفاضة الأقصى، وكانت تريد أن تقدِّم ما تستطيع، لمساندة شعبها في الضفة وغزة، واعتبرت أن ما قامت به جزء من هذه المساعدة. مكثت لينا أكثر من (30) يوماً في مركز الجلمة، وتعرضت خلالها للتحقيق والاستجواب المتواصلين، على يد المحققين الإسرائيليين، بالإضافة إلى أشكال متنوعة من التعذيب النفسي المتمثلة في السبّ، والشتم والإهانة، والعزل في زنزانة انفرادية، والحرمان من النوم، واعتقال شقيقها سعيد، وشقيقتها لمى، للضغط عليها. ثمَّ حكمت بالسجن سبعة عشر عاماً.
وهي تعاني الآن من تورم وأوجاع في القدمين، بالإضافة إلى وجع الرأس المتواصل (الشقيقة)، يقابله على الناحية الأخرى إهمال طبي متعمد من قبل إدارة مصلحة السجون الإسرائيلية".
*****
وعلى الرغم من أن الصفقة اشتملت على عدد محدود من الأسرى المقدسيين، والأسرى من عمق فلسطين؛ لكنَّ لينا، ورفيقاتها الأسيرات، من المحرَّرات، وممَّن ما زالوا في الأسر؛ يشعرن بالغبن الشديد، وبالإهمال من التنظيمات الفلسطينية كافة، ومن المجتمع الفلسطيني والعربي.تستصرخنا لينا ألاّ ننساها: "لا تظلموني وتنسوني، ولأني من فلسطين 48، هل عليَّ أن أستثنى؟!"
سؤال جارح؛ ولكنه سؤال مشروع: ماذا عن أسرى القدس، وأسرى قلب فلسطين؟ من ينطق باسمهم؟ ومن يكترث لتخفيف آلامهم؟ ومن سوف يناضل لتحقيق آمالهم في العيش الكريم في وطنهم، وفي استنشاق الحرية؟
تحسّ لينا أنها بين المطرقة والسندان. ولا يسمح لها موقعها في المعتقل، كممثلة للأسيرات، أن تبدي مشاعر الحزن والألم. ترفع رأسها بكبرياء استمدَّتها من نضال شعبها، وصلابته، ووقفته الشامخة ضدّ ألوان القهر، وتعبِّر عن أحاسيسها بكلِّ مرارة: يا وحدنا!
*****
لينا الجربوني،
لستِ وحدك،
ها قد انضمَّت إليكِ: هدف عمري، وجهاد عبد الله، وكامل بدارنة، ومحمد غبارية، ويوآف بار، وإيريس بار، وآدم بار، وحمود زيدان، وراني إسماعيل، وميسان صبح، وفداء زيدان، وموفق نفاع، ومحمود حصري، وجيفارا فحماوي، من طمرة، وبيت جن، والطيرة، والناصرة، ومجد الكروم، وأم الفحم، ممَّن تضامنوا معكِ، ومع الأسيرات اللواتي لم تشملهن الصفقة، كما تضامنوا مع الأمين العام للجبهة الشعبية "أحمد سعدات"، الذي تدهورت حالته الصحية، نتيجة إضرابه الذي استمرَّ أكثر من عشرين يوماً، وتضامنوا مع الأسرى جميعاً، أمام سجن "الشارون"، يوم 20 تشرين الأول.
لا يكتفي الاحتلال باعتقال الآلاف من طلاّب الحرية، وتعذيبهم، في خرق فاضح لاتفاقية جنيف الرابعة، لعام 1949، التي تحظر التعذيب، بوصفه انتهاكاً لآدمية الإنسان؛ بل يكمِّمون أفواه من يطالبون بإطلاق سراحهم، ويعتقلونهم بشكل عشوائي، دون الاستناد إلى أي قانون.
ولن نكتفي بإطلاق سراح بعض الأسرى. ولن نكفّ بدورنا عن فضح جرائم الاحتلال العنصري الاستيطاني. سوف نناضل حتى تشرق شمس الحرية على الأسرى جميعهم، وعلى الوطن بأسره.
Faihaab@gmail.com