العرس في يافا.. والعروس من اللاذقية
يامن نوباني
جرت العادة لسيدات يافا قبل نكبة عام 1948، أن يُقمن الاستقبال الأسبوعي للجارات والصديقات، للتعارف والترويح عن أنفسهن، في صالون السيدة حسيبة بامية في منطقة مسجد حسن بيك في حي المنشية بيافا.
خلال الاستقبال، سألت أم صلاح الرملي الحاضرات عن عروس لابنها البكر صلاح، فكانت أم غسان كنفاني من الحاضرات، فأشارت اليها بالصبية ناديا حاج قاسم، الطالبة في مدرسة الزهراء، الابنة الرابعة والعزباء الوحيدة لعائلة سورية قدمت ليافا منذ سنوات طويلة، قالت هناء ابنة صلاح الرملي، التي تقيم في العاصمة الأردنية عمان، وتعمل مهندسة مدنية وخبيرة استشارية في مجال استخدام الانترنت.
وأضافت: ذهب جدي أبو صلاح وجدتي أم صلاح الى بيت الصبية ناديا (15 عاما)، وجرت مراسم الطُلبة والخطبة، وفي نهاية عام 1947 تزوج والداي صلاح وناديا، وسكنا تلة العرقتنجي في حي العجمي. لم يمضِ وقت طويل حتى وقعت الحرب والتهجير، وكان والداي عروسين جديدين، لم يشبعا من يافا سوية، التي أسس فيها جدي أحمد حاج قاسم، مشغل خياطة ضخم مخصص للبدلات الرجالية، حيث اشتهر أهل يافا من نساء ورجال بحبهم للأناقة، قبل أن ينتقل لتأسيس محل حلويات ذاع صيته في يافا وجوارها، حيث استقدم حلوانيين من اللاذقية، وأضاف لحلويات يافا، الجزرية واللوزينا.
صورة من زمن يافا الجميل
تقول هناء: قبل التهجير بساعات قليلة حرصت أمي على نزع صور شهر العسل وصور من حفل الزفاف، التي استلموها من استوديو 'فينوس' وقاموا بتكبيرها ووضعها في براويز فضية.
وتتابع: لم يمهل التهجير عام 1948 أمي ولادة طفلها الأول بالمدينة، فأنجبته في القاهرة، التي لجأت إليها مع عائلتها، وكان لاسم المولود نصيب من الحالة العامة السائدة حينذاك، فأسموه 'جهاد'.
محاولة للعودة..
تفحمت بعض الأجساد فوق الأسلاك الشائكة المكهربة على الحدود، وآخرون أصيبوا فعادوا إلى حيث هجّروا زحفا ودما، بعضهم نجح في العودة وحيدا بعد تسلله في ساعات الليل، وظل الملايين يحلمون بالرجوع..
قرر والدي صلاح الدين العودة إلى يافا لينضم إلى صفوف المناضلين مع صديقه من عائلة العيسوي، وحين وصلا سيناء تعرضا لحادث سير قرب واد عميق، فاستشهد العيسوي وأصيب والدي إصابة بالغة وعاد للبيت بعد شهرين من مكوثه في المستشفى.
أنجب صلاح الفلسطيني وناديا السورية، ستة أطفال في ثلاث دول: جهاد وسلام وبشر ولدوا في القاهرة، وسمر وأسامة ولدا في الكويت، وهناء ولدت في السعودية، وغرسا في أبنائهما حب النضال والانتماء إلى وطنهم، فلسطين.
ظل صلاح وناديا يحلمان بالعودة إلى يافا، متسلحين بتعليم أبنائهم الستة، حيث حصل معظمهم على شهادات عليا في تخصصات مختلفة، وصار لهما 18 حفيدا توزعوا في بقاع الأرض وحصلوا على درجات عليا في التعليم ومراكز العمل وعلى جنسيات أجنبية وعربية، متنقلين بين كندا وايرلندا وأميركا والصين والأردن وسوريا والسعودية والإمارات.
العائلة التي أسسها جدي محمود الرملي بعد عودته إلى يافا من رحلة عشرين عاما في المهجر متنقلا بين البرازيل والارجنتين، وافتتح متجرا لبيع الأغلال في سوق الصلاحي، واشترى منزلا في شارع عبد الرؤوف بيطار في تلة العرقتنجي بحي المنشية، وارتبط بفاطمة بامية، تفرقت في أنحاء شتى من العالم، قالت هناء.
نجح الفلسطيني المهجّر عام 1948 والفلسطيني النازح عام 1967، في العيش والعمل والتعلم والتعليم والزواج والإنجاب والبناء في جميع دول العالم، التي كانت محطته الإجبارية للتوقف الطويل، لكنه لم ينجح أبداً في النسيان أو الغفران.. يموت في غير أرضه وهو يردد: أعيدوني إلى فلسطين.
يافا.. والتي تعني 'الجميل' كانت تعتبر قبل النكبة عاصمة فلسطين الثقافية دون منازع، حيث احتوت على أهمّ الصحف الفلسطينية اليوميّة وعشرات المجلات ودور الطباعة والنشر، إلى جانب احتوائها على أهم وأجمل دور السينما والمسارح والأندية الثقافية في فلسطين، قبل أن يحوّلها الاحتلال إلى ناحية من نواحي تل أبيب، ويطمس معالمها وهويتها العربية والاسلامية، لكنها باقية في ذاكرة من لم يفقدوا الأمل بالرجوع، ويحتفظون بتفاصيلهم الصغيرة في رائحتها الفلسطينية العتيقة.