أبو عمار "المبعد الذي لم يبعد"
وفا- بسام أبو الرب
في 11-9-2003 قررت حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق اريئيل شارون، الموافقة المبدئية على إبعاد الرئيس الراحل ياسر عرفات "أبو عمار"، وحينها عد الكثير هذا القرار خطوة تجاوزت كل الخطوط الحمراء في قضية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي وتحديدا عقب ثلاث سنوات على اندلاع انتفاضة الأقصى.
وقد خرجت الحكومة الإسرائيلية آنذاك وعقب اجتماع لها بقرار هز الشارع الفلسطيني والعربي والعالمي، والتي قالت في نص بيانها "إن عرفات عقبة مطلقة في طريق المصالحة بين إسرائيل والفلسطينيين والحكومة ستتحرك لإزالة هذه العقبة بالشكل والتوقيت وبالطرق التي سيتم اتخاذ القرارات بشأنها بشكل منفصل".
ومنذ اللحظات الأولى لسماع قرار حكومة شارون آنذاك نزلت الجماهير الفلسطينية بالآلاف في جميع المدن والقرى والمخيمات إلى الشوارع احتجاجا وتحذيرا من إقدام حكومة إسرائيل على تنفيذ قرارها، ما شكل ضربة قوية للقرار الإسرائيلي، واستفتاء للرئيس الراحل ياسر عرفات، وما عزز هذا الموقف موقف الفصائل الوطنية والإسلامية التي أجمعت على رفضها للقرار الإسرائيلي محذرة من الإقدام على هذه الخطوة.
وانقسم موقف المجتمع الدولي، ما بين الولايات المتحدة الأميركية من جانب، وبقية دول العالم من جانب آخر، حيث أبدت الولايات المتحدة الأمريكية، موافقتها الضمنية على القرار الإسرائيلي، رغم تنديدها بالقرار إعلاميا، في حين عارضت بقية دول العالم القرار الإسرائيلي، وتحديدا دول الاتحاد الأوروبي، التي تجلت معارضتها للقرار الإسرائيلي بتصويتها بالكامل في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد القرار الإسرائيلي، كذلك عارضت الأمم المتحدة وعلى لسان الأمين العام لها آنذاك "كوفي عنان" القرار الإسرائيلي رغم حالة الضعف التي أصابت هذه المؤسسة، بعد هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على المجتمع الدولي.
وأصبح "أبو عمار" أحد أشهر الشخصيات في العالم بأسره، ونجح في غرس صورته التي تتميز بوجه مبتسم ويد مرتفعة بعلامة النصر تارة أو يدين متشابكتين تارة أخرى، وحتى عندما حاصرته إسرائيل نحو ثلاث سنوات في مقره المدمر بالمقاطعة في رام الله لم يتخل الرجل عن ملامح شخصيته الفريدة، وكثيرا ما ردد عبارته الشهيرة "يا جبل ما يهزك ريح" كرد ساخر من المحاولات الإسرائيلية للقضاء عليه سياسيا ومعنويا.
وطوال سنوات الحصار كان أبو عمار يدرك أن إسرائيل تتمنى اختفاءه من الساحة السياسية التي ملأها لعشرات السنين، لكن ظل على حاله بل وأضاف إلى قاموسه الشهير عبارته الأشهر "يريدونني إما أسيرا وإما طريدا وإما قتيلا .. وأنا أقول لهم بل شهيدا شهيدا شهيدا".
عباس زكي عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، يستذكر الشهيد أبو عمار في ذكراه، خلال سنوات الحصار فيقول: أبو عمار كان صاحب فكرة "أقصر الطرق إلى فلسطين الكفاح المسلح"، وقد أسس حركة "فتح" التي مرت بعواصف كبرى، ولكنها استمرت نتيجة الرؤية الصائبة.
ويضيف، "أبو عمار استطاع الوصول إلى أدمغة العالم أجمع، الذي رحب به عندما أصبح قادرا على تحقيق السلام والتعايش والأمن والاستقرار، من خلال اتفاق أوسلو الذي وقعته منظمة التحرير عام 1993 مع حكومة إسرائيل آنذاك برئاسة اسحق رابين، عقب مؤتمر مدريد للسلام، كمرحلة انتقالية لتحقيق الأمن والسلام في المنطقة".
وأردف: قتل رابين نتيجة اقتناعه بضرورة السلام، شكل ضربة للشريك أبو عمار؛ كونه فقد الشريك في السلام، وببراعة ياسر عرفات ودبلوماسيته جعلته يستمر حتى العام 2004 رغم تعاقب الحكومات الإسرائيلية.
واستطرد: أبو عمار كان ضحية لأنه أراد السلام والاستقرار في الشرق الأوسط، في الوقت الذي كان فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق اريئيل شارون ينقلب على فكرة السلام من خلال اقتحامه المسجد الأقصى في أيلول عام 2000، بعد فشل مفاوضات "كامب ديفيد" في ظل إصرار أبو عمار على الثوابت، وأنه الشخصية العربية التي قالت (لا) للبيت الأبيض، الأمر الذي أعطى لإسرائيل مبررات لتدمير السلطة الوطنية ومحاولات قطع رأسها وإخماد الثورة بإزاحة ياسر عرفات عن مسرح الأحداث".
وقال: تصريحات شارون الذي لا يؤمن بالسلام تقول، إن "عرفات عقبة ويجب إزاحته"، واليوم يخرج وزير الخارجية الإسرائيلية أفيغدور ليبرمان ويعيد الكرة فيقول إن محمود عباس "عقبة في وجه السلام ويجب إزاحتها"، الأمر الذي يعني أن إسرائيل غير ناضجة للسلام، بل إنها تريد مزيدا من الوقت لتكريس هذا الاحتلال وتجذيره وسلب القدس من الجغرافيا والخارطة السياسية الفلسطينية والعربية والأممية بحكم مكانتها الروحية، ولكن الفلسطينيين لا يرون دولتهم دون القدس عاصمة لها.
وأضاف، "إن الرئيس الراحل أبو عمار كان مبهرا، وكسب العالم ببطولاته خاصة بعد معركة الكرامة، وذهب بنفس الإشعاع حيث ودع جثمانه في ثلاث قارات حين أقيمت له جنازة عسكرية في العاصمة الفرنسية باريس في أوروبا، وأخرى في مصر بإفريقيا حين نقل جثمانه هناك في طريقه إلى مثواه الأخير برام الله في قارة آسيا"، مشيرا إلى أنه قليل من هم لا يمتلكون سيادة ولا جيشا ولا أرضا ويحظون بمثل ما حظي به عرفات كما حظي بوقوف العالم معه في سنوات نضاله.
وأوضح زكي أن "أبو عمار" كان مشروع شهادة خاصة عقب فشل مباحثات "كامب ديفيد"، حينما قال للرئيس الأميركي آنذاك بيل كلينتون، "أدعوك للسير في جنازتي" في معرض رده على ما قدمته الإدارة الأميركية من عروض حول قضايا الحل النهائي.
ولفت إلى أن "أبو عمار" كان مقتنعا بالجملة التي رددها عقب قرار الحكومة الإسرائيلية، "يريدونني إما أسيرا وإما طريدا وإما قتيلا.. وأنا أقول لهم بل شهيدا"، قائلا، "كانت ردة فعله فلسطينية دما ولحما وعقلا من منطلق أن الوطن الذي لا تدافع عنه لا تستحقه. إضافة لشعارات أخرى مثل "على القدس رايحين شهداء بالملايين" فهو يعرف أنه يزرع بالجيل الفلسطيني أن القدس تحتاج إلى ملايين الشهداء كونها أم المعارك وهي في رباط إلى يوم الدين".
ورأى أن الشعب الفلسطيني أثبت أنه "أكبر من قيادته، بنزوله وهبته بإرادته وصدوره العارية في ذلك الوقت لإنقاذ ياسر عرفات والتضامن معه، وبالتالي الحماية الحقيقة هي أن تحتل أدمغة الناس وقلوبهم".
وأكد أن عرفات "كان القضية وكانت تسكنه وهو في الخارج وسكنها عندما عاد إلى الوطن، وأن إبعاده كان مستحيلا وصعبا كونه الرمز الذي تعلقت به أفئدة المناضلين والأحرار في العالم، وليس من السهل نسيانه حتى لو أبعد".