فجأة ؛ كل شيء صار جميلا وسط انتفاضة مشتعلة
نص : عبد الله ريان
لكل مرحلة احساس منوط بها وموازي لها او ربما وليدها الشرعي ... فجاة في ظل هذه " الهبة " او " الانتفاضة " أو " التصعيد " او " العنف " ....وغيرها من الاوصاف التي يجري توصيفها بحسب الطرف والمعتقد ؛ في غمرة هذه كله وحين باتت امواج "الموت " تموج بارواحنا في اي لحظة و" الشهادة " تسكنها في كل لحظة ، لاسيما وان هذا المصير لم يعد منوطا بمن يقاوم في خط المواجهة الاول في خندق المواجهات المشتعلة ، او يتقدم هذا الخط باميال حاملا سكينه ، وانما اصبح هذا المصير منعقد على جبين الجميع دون استثناء : المقاوم والمشاهد ، المرابط والصامد ، الموظف والعامل والعاطل عن العمل ، او حتى غير المكترث بكل ما يجري ...فما دام انه "عربي" يمشي على الارض المحتلة فهذا كافي لقتله بادعاء محاولته الطعن ، حتى ان السكاكين في جعبة الجنود حاضرة تلقى على الفور بجانب "العربي" بعد اعدامه كما ظهر بوضوح في الخليل لحظة اعدام مستوطن للشهيد فضل القواسمي .
في زحمة هذا كله وغيرهذا من المشاهد التي تعصف بالضفة الغربية وقطاع غزة والداخل- فلسطين المحتلة - التي وحدها الميدان ولا زالت السياسة تبقيها منقسمة- ؛في زحمة هذا كله وفي "ورطة " توقع الموت بانتظاره او الاقدام عليه اصبحنا كـ "فلسطينيين" أو -عرب - كما يفضل اليهود تسميتنا - في ظل هذه "الورطة " اصبحنا دون معي منا نهتم بتفاصيل الحياة صغيرها وكبيرها اكثر دون ان نشعر بذلك ! ربما لان ارواحنا تشعر باقتراب ساعتها بين الرصاص والقنابل قبل ايام او اسابيع من ذلك في حين يكون العقل والجسد غافلا ومنقادا لارداة هذه الروح التي تصبح اكثر حساسية و انسانية حتى في صغائر الامور التي لم نكن نلتفت لوقعها ولم نتأنى يوما للتمتع بمذاقها ولم تكن تعني لنا الكثير .... ! على سبيل المثال صار القاء التحية " صباح الخير يما " ليست مجرد عادة ، وتكفي عيون امك وانت ترميها بهذه التحية صباحا حتى تؤثر فيك فتتقدم لتقبيلها ووداعها وكانك لن تبقى لصباح آخر لتقول لها مرة اخرى " صباح الخير يما " أو ربما تشعر برغبة في حضنها وتقبيلها ولكن تترد في ذلك خوفا عليها من القلق عليك طوال اليوم نتيجة لمثل هذا الموقف الذي يعد في عرفنا " نذيرا لخطب ما سيحدث " لاسيما وانها تعلم ما يدور الآن في فلسطين وتشاهد التلفاز وتترحم على الشهداء جميع وتتوجع مع المصابين وتتألم مع المعتقلين وتبكيهم وكانهم جميعا أولادها .
وفي مشهد آخر صار تنفيذ ما يطلبه "الوالد " او الاهتمام بما تعلم انه يهمه ويحرص عليه من فعل او قول او عمل يخصه او يخصك ؛بات تطبيقه امرا في غاية الروعة ." ابوي " وكل ما يطلبه وما يريد ان اكون عليه " صار امرا مهما وممحبا على خلاف السابق حين كان التثاقل محور تنفيذ ذلك ، خصوصا اذا ما كنا لا نحب القيام به ،ولسنا من المتقبلين لسيل الملاحظات والنصائح والمحاضرات ، الآن نحب كل شيء ، نحب "ابونا ومحاضراته " ، فالحياة ربما تكون قصيرة واقصر مما نعتقدولا نريد ان تنتهي ونحن لم نلبي ما يرده منا بعد .
وحتى زواجاتنا او ازواجنا ابنائنا وبناتنا باتت العلاقة أكثر سهولة من ذي قبل ، حيث صراع التفاصيل وصداع الخلاف والاختلاف والترصد والترقب " الاكل مالح زيادة ! الشوربة خفيفة او ثقيلة! ليش ما عملت! ليش ما انتي عملتي ! مش شغلي شغلك ! الحق علي ! لا الحق عليك ! كل هذه الدوشة اختفت ، فالروح من يقودنا في هذه اللحظات ، ليس من اجلنا وانما من أجلها ! تريد ان تتمتع ما امكنها ذلك بما تبقى فربما لم يبقى الكثير !
اما الاخوة والاخوات والأقارب في العائلة الفلسطينية الصغيرة والممتدة والاكثر من الممتدة والأصدقاء والزملاء في العمل فلم تعد بعض عاداتهم التي كانت تسوئنا ونفتعل "طوش وهوشة " كبيرة بسببها أمرا مهما ، وبات من السهل التغاضي عنها ، واكثر من ذلك صارت النفس تستكشف فيهم الجمال والحسن وهو ما لم تراه فيهم من قبل ، واصبحت مجالستهم في الغالب امرا في غاية الروعة، فربما لن يتجدد مساء آخر او ظهيرة اخرى أو عصرا آخر يجمعك بهم من جديد ... لذلك وفجاة أصبحالكل جميلا .
شروق الشمس ومغيبها ،الارض والسماء والغيم ، النسيم والسموم – الحر- الزيتون العنب وكل الأشجار والطيور الطبيعة باسرها ... الشارع الحارة القرية والمدينة المكتظة وحتى اشارة المرور ..كل شيء جميل . لون اللباس وحتى الحذاء الذي ساخرج به مهما وجميلا فربما لا نعود للبيت حتى تتاح لنا فرصة ارتداءه مجددا . موت برسم الجنون "في اي حذاء بلوزة وبلطلون يجب ان اموت ! ايم منها نحبه اكثر وفي اي منها علينا ان نموت !! "فجاة كل التفاصيل صارت ببساطة جميلة ..حتى هذا النص المجنون جميل فلا اجدني اكتبه ولا حتى اعرفه ..هو كتابة روح عاقلة تحب الحياة بفطرتها الجميلة في دنيا مجنونة.