هو الحب.. لا سرّ بين فلسطين والجزائر
يامن نوباني
في العام 1982 استقبلت الجزائر 588 مقاتلا فلسطينيا، بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وفي 15-11-1988 أعلن الشهيد ياسر عرفات من قاعة الصنوبر في مدينة الجزائر العاصمة، استقلال دولة فلسطين، وهي الوثيقة التي كتبها الشاعر الراحل محمود درويش.
ما أسسته القيادتان الفلسطينية والجزائرية، على مرّ الزمان، من علاقة نضال وتحرر وترابط وأخوة وتضحيات، انعكس بشكل لافت على الأجيال المتعاقبة، وأفرز هذه العلاقة الاخوية بين الشعبين. ففي الجزائر عاش ودرس وعمل قادة وشهداء، أمثال الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد)' وأبو علي إياد، وممدوح صيدم. وعلى أرض الجزائر كان المقر الأول لحركة فتح، وبقيت الأرض التي ترفض أدنى أشكال العلاقة مع إسرائيل، إضافة إلى لبنان.. كما أن فلسطين لا تتوانى لحظة عن مشاركة الجزائر ذكرى استقلالها ومناسباتها الوطنية.
الجزائر أول دولة اعترفت بدولة فلسطين، وقدمت لآلاف الطلبة الفلسطينيين منحا دراسية وما زالت، وهي الدولة الملتزمة بتقديم المساعدات الدورية لفلسطين، دون أن يكون الفلسطيني بعيدا عن دعمه للثورة الجزائرية، وكما يقول الكاتب الفلسطيني أسامه العيسة، فإن الفلسطينيين جمعوا التبرعات دعما للثورة الجزائرية، كما حدث في مخيم الدهيشة في بيت لحم في خمسينيات القرن الماضي .
وافتتحت المعسكرات التدريبية للمقاتلين الفلسطينيين في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، حفظ الجزائريون وفهموا وطبقوا مقولة رئيسهم الراحل هواري بومدين 'نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة'.
الجزائر وفلسطين.. الأدب شريك قوي
الدكتور عبد الله ركيبي خصص فصلا من كتابه 'فلسطين في الشعر الجزائري الحديث' لقضية النكبة، والنكسة 1967، والانتفاضات المتتالية للعشب الفلسطيني. كتب الشعراء الجزائريون قصائدهم التي تناصر القضية الفلسطينية ، فكانت القصائد في مجلة 'الشهاب'، والروايات كتب الشعر، أمثال: محمد العيد، ومحمد جريدي، ومفدي زكريا، وصـالح خرفي، ومحمد الأخضر السائحي، وأحمد سحنون، والربيع بوشامة، وموسى الأحمدي، ومحمد بوزيدي، وكاتب ياسين، والطاهر وطار الذي مُنعت روايته اللاز في فلسطين وكان يتم نقاشها وتداولها سرا، وواسيني الأعرج، وأحلام مستغانمي، قابلهم شعراء وأدباء فلسطين بالكتابة عن الجزائر وتاريخها النضالي وشهدائها، ويكاد لا يخلو حرف كاتب فلسطيني من كلمة الجزائر، فكتب الشاعر الغزي سليم النفار: غداً.. سيجيءُ من رحم السماء، فلنا خيولٌ.. ها هنا.. فرسانها جيشُ الإباء.. شعبُ الجزائر.. لو تنادي: كلّهُ الشهداء.
فيما كتب الشاعر المقدسي نجوان درويش: جزائر.. لو كان لي ابنة، سأَحتارُ في اسمها.. وفي الآخر، سأَختار الجزائر.. في المدرسة ستهتف حولها البناتُ: جزائر... جزائر. وفي الحقول.. ستتبَعُها الفَراشات وتَلْهَجُ باسمها العصافير. وفي طريق العودة من المدرسة ستمشي مَخفورةً باسمها.
وكتبت الإعلامية الجزائرية زهية منصر: آخر زيارة لدرويش إلى الجزائر في عام 2005، حيث نظم الشاعر أمسية في قاعة ابن خلدون ألقى فيها أجمل قصائده من 'مديح الظل العالي'، إلى سجل 'أنا عربي'، وهنا قرأ درويش قصيدة للجزائر 'على هذه أرض ما يستحق الحياة'، ما زلنا نذكر تفاصيل الأمسية كأنها كانت بالأمس فقط، ليلتها بكت الجالية الفلسطينية بالجزائر في حضرة شاعرها، ليلتها أغلق درويش شوارع العاصمة، وامتلأت القاعة عن آخرها، ليلتها أثبت درويش أن الشعر أيضا له جمهور عندما يلتحم بقضايا الناس البسطاء وهمومهم. كانت أمسية مشهودة أغلقت الشوارع المؤدية والمحاذية للشارع الرئيسي لساحة أودان والعربي بن مهيدي، ليلتها خرج درويش من زحام الجمهور والمعجبين وهو يشق طريقه تحت طوق أمني مشدد، ليلتها ردد الجمهور قصائده، كانوا يرددون أغاني المطريين، وهتف الجميع لحد الدموع، ليلتها عزف الشاعر على وتر الجمهور الذي عاش ليلة ستبقى في السجل الذهبي لأجمل الفرص التي أتيحت لهذا البلد، ليلتها وقفنا جميعا في حضرة درويش أطفالا مشتاقين للصدق في القول والحديث الذي ينبع من القلب، ليلتها قلنا متى يعود درويش إلى الجزائر؟ وبقي السؤال معلقا إلى الأبد.
القلب والبيت واحد
رانيا عزريل، من سلفيت، تقول: أمي جزائرية وعشت طفولتي في الجزائر، في حارة أهل أمي كان شاب اسمه بوعلام، كلما رآني قال لي: روحي راهي جاع لفلسطين بمعنى روحي فداء لفلسطين، وهي عبارة مكررة على ألسن الجزائريين، تمشي وتتجول في الجزائر دون أن تشعر بغربة.
تقول الشابة رزون عيسى من نابلس: أدرس القانون في مدينة قسنطينة، لأنه حلمي. في أول أيامي في الجامعة كان يقول لي الطلاب الجزائريون بعد أن يعرفوا أني فلسطينية: 'الله يبارك خيار الناس'.
وتضيف الشابة الفلسطينية إيمان الأشقر والمقيمة في السعودية: في العام 2010 توقفت قافلة 'شريان الحياة' التي انطلقت من الجزائر إلى غزة، في مخيم الرمل باللاذقية، وهناك تعرفت على ريما ومحمد اللذين كانا يتوشحان بالكوفية الفلسطينية طوال الوقت، ويكتبان أسماء الشهداء على صدف البحر، ويحفظان أغاني الثورة الفلسطينية، وودعانا بالدموع.
أمل صوالحة من القدس، ترجع سبب العلاقة المتينة بين الشعبين إلى اهتمام الاعلام الجزائري بالقضية الفلسطينية، وبكاء الجزائريين على شاشات التلفزة حين تُصاب فلسطين.
يبرز الحب جلياً بين فلسطين والجزائر، خلال مباريات كرة القدم، سواء في الدوريات المحلية، أو المباريات الدولية للمنتخبين، لا يغيب العلم الفلسطيني عن الجماهير الجزائرية التي ترفعه أينما حلت، وانتشر مقطع فيديو لجماهير فيلاج موسى جيجل الجزائري تزلزل أرض الملعب من أجل فلسطين. يقابل ذلك رفع العلم الجزائري من قبل الجماهير الفلسطينية، في الدوري المحلي والخارج، وداخل المسجد الأقصى، وفي التظاهرات على نقاط التماس، حيث يتلثم الشبان ويتحدون جنود الاحتلال بالعلم الجزائري، دون أن ننسى أن المدير الفني لمنتخب فلسطين، هو الجزائري نور الدين ولد علي.
ويُقابل الحب الفلسطيني، عشق جزائري، تقول الشابة كريمة غانم من مدينة عنابة إن القضية الفلسطينية والعلم الفلسطيني مقدس عند الجزائريين، لذا يرفعونه جنبا إلى جنب مع علم بلادهم.
الجزائرية هناء من ولاية برج بوعريريج، تقول: أعتبر فلسطين وطني الذي حُرمت منه، وأبكي على حيفا ويافا والقدس مثل الفلسطينيين تماما، ويقشعّر بدني كلما تذكرت مقولة جدتي: 'جدك لو ما استشهد بالجزائر كان راح يستشهد بفلسطين'.
وتضيف أولفا بهلولي من ولاية سطيف، جدي كان كثير الاستماع لأخبار فلسطين، ومنه تعلمت أسماء مدنها. وكان لديه عشق كبير لأبو عمار.
الكاتب الفلسطيني أمين دراوشة يقول: في الجزائر كل شيء أخضر، الأرض وقلوب الناس، السماء الزرقاء والبحر لا يكفان عن معانقة الأخضر. هناك قضيت سنوات من عمري القصير، أبحث عن الحقيقة في مئات المكتبات الحديثة والقديمة. عشت في مدينة باتنة، التي يحتضنها الأوراس، لا شيء سوى الهدوء والسكينة، وجبال وصخور عتيقة تخبرك عن ماض كان، تضحيات لا تعد ولا تحصى، وماء زلال يندلق من شفاه البشر الطيبين. الجزائر منارة في جسد العالم الأسود، تدل من لا مرفأ له، إلى ميناء الدفء المنعش. هل حقا كنت هناك؟ لا شيء في البال غير السفر.. لا شيء في القلب سوى المحبة الرابضة، تنتظر الفرصة السانحة، لتعانق تراب الجزائر الرطب الذي تفوح منه رائحة الأزهار الزكية.. رائحة ابن باديس ومالك بن نبي ديدوش مراد والعربي المهيدي ولالا فاطمة والطاهر وطار، والأيقونة الخالدة جميلة بوحيرد.
لم تنته العلاقة، لم تبرد، فالجزائريون مُصرّون على البقاء إلى جانب فلسطين حتى التحرر، والفلسطينيون لا ينسون ذكرياتهم في الجزائر، ولا يحيدون عن المحبة الفطرية لشعبها.