قس يحلم بالحديقة المقدسة
- جميل ضبابات
قد تكون شجرة الأرز الوحيدة في نابلس شمال الضفة الغربية، وقد يكون غيرها زرع في مكان ما، لكن على حد علم راعي الكنيسة الأسقفية وغيره الكثيرين ليس هناك غير هذه الشجرة الصغيرة التي تنمو ببطء وسط ساحة الدير.
في العام أحضر ابراهيم نيروز الشجرة من لبنان، ووراء تلك الرحلة التي اصطحب بها شجرته الصغيرة، كان حلم يراوده بأن يؤسس نواة لحديقة الكتب السماوية المقدسة، يجمع فيها الأشجار التي ورد ذكرها في الكتب السماوية الثلاثة في ساحة الدير.
'قلت لنفسي عندما حضرت الى هنا قبل سنوات، سأعيد تشكل الدير(...) سأزرع ساحاته بالأشجار.. منذ ذلك الوقت فكرت بالحديقة المقدسة'.
ويحلم القس الذي يريد إعادة رسم الخارطة الخضراء في بهو دير وضعت لبناته الأولى قبل نحو عام، بجمع أكبر عدد من الأشجار التي ذكرها القرآن الكريم، والعهدين القديم والجديد ورصفها جنبا الي جنب.
لا يرى القس الذي يعيد النظر دائما في المساحات المتاحة لتوزيع الأشجار التي يفكر بزراعتها، الفكرة مستحيلة، لكنها تبدو مضيئة جدا ايضا تحت شعاع الشمس المفاجئ الذي تسلل الى المدينة واستلقى فوق الأغصان التي لمعت فوقها قطرات الماء.
عندما مشى خارجا من واحدة من غرفتين قديمتين نحو وسط الدير لتفقد الأرزة، قال: ' لم يعد يخامرني الشك بانها ستكون حديقة الأشجار المقدسة. أنا على يقين انها ستكون يوما ما'. ومال نحو الشجرة الصغيرة التي أحاطها بحماية حديدية وتحسس قممها النامية الشوكية' وأضاف 'انها تنخز.. الا انها جميلة'.
وعندما يعود الى المكتبة يخرج كتابا لفهرس العهد الجديد قائلا: ' انظر الى مفردة الأرز. لقد ذكرت كثيرا.'
عمليا، حفلت الكتب السماوية بذكر الكثير من النباتات والأشجار والحيوانات.
وفلسطين ذاتها كانت موئلا مقدسا لمكونات الطبيعة. ففيها ذكرت النخلة التي هزت جذعها مريم العذراء أم المسيح عندما جاءها المخاض.
في ساحة الدير الذي يحمل أيضا اسمه الأقدم، كنيسة القديس فيلبوس، المذكور في سفر أعمال الرسل الإصحاح الثامن يمكن رؤية أشجار زرعت قبل مئات السنين مثل زيتونة قال القس إنها من أيام الرومان عندما أسسوا نابلس الحديثة وسموها نيوبولس.
الدير يقع ذاته عن الأطراف الغربية للبلدة القديمة وفيه حفر بئران أيام الحقبة الرومانية، أعادت نيروز اكتشافهما قبل أشهر قليلة، وينوي استغلال مياههما في ري الحديقة الحلم. واقفا عند فم أحد البئرين قال الرجل: ' أحلم الآن بالماء القادم من السماء، لري الأشجار'.
ليس هناك عدد محدد لتلك الأشجار التي بدأها نيروز بالأرزة، لكنه يقول إن المساحة المتاحة ( دونمات) في الدير لزراعة الكثير منها.
وهو يقضى بعض الوقت بين الكتب المقدسة لحصرها.
معروف ان التين والزيتون من الاشجار التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، وهما بطبيعة الحال شجرتان موجودتان أساسا في بهو الدير وأغصانهما طويلة متهدله.
الا أن نخلة مائلة اقتلعت وأعاد نيروز زراعة بديل لها في المكان.
في الدير الذي اقتطع رعاته من قبل مساحة لجيرانهم المسلمين لإنشاء مسجد الخضر عند زاويته قبل قرن بتبرع مباشر من القس الالماني كرستيان فلشر، لم تكن هذه الفكرة اليتيمة التي جمع فيها نيروز مكونات الاديان الثلاثة.
فمن قبل وعلى مدار سنوات كان الدير مساحة صيفية متاحة لاتباع الكتب السماوية الثلاثة من الاطفال الذين يسكنون نابلس، لقضاء أسبوع كامل خلال النهار في نشاطات ترفيهية وتعليمية.
في نابلس يسكن الآن ليس اكثر من من المسيحيين ونحو نصف هذا العدد من الموسويين السامريين. حري بالقول ان الدير وصلت اليه طلائع المعذبين المسحيين كما تقول الروايات الدينية بعد عام ميلادي عندما سقط استيفانوس أول شهيد مسيحي بأيدٍ يهودية في القدس ما دفع جزءا من اتباع المسيح للهروب والقدوم الى هذا المكان.
ذاتها عائلة نيروز دفعت ثمنا في الثورة الفلسطينية المعاصرة عندما قتل الإنجليز جده ابراهيم في نيسان عام في ميناء يافا القديم، وأمر اسحق رابين رئيس الحكومة الاسرائيلية الراحل باعتقال جده لأمه صبحي الجلدة عندما اجتاح مدينة الرملة عام ليصبح أول أسير محرر احتفلت العائلة بعيد ميلاده السادس والتعسين مؤخرا.
ابراهيم الذي يجلس في ساعات النهار الآن في بهو كبير حوله الى مادة ارشيفية لتاريخ الدير الحديث الذي اقيمت أول مبانيه في العام وتحولت مبانيه الى أول مدرسة وطنية تستخدم نظام المنهاج المتعددة في العام ، يشير الى تلك البدايات التي ضم فيه اول صف تعليمي طلابا مسلمين، ومسحيين وسامريين ويهود من أبناء المدينة التي يقدر عمرها منذ بناها الكنعانيون الأوائل وتكالبت عليها أنظمة خارجية كثيرة.
حتى عقود مضت كانت نابلس المدينة التي تحفل بمدرجات رومانية وجدران كنعانية، مدينة أشجار. ورحلة في مذكرات الرحالة الذين زاروها في القرن التاسع عشر تظهر الوادي الذي اقيمت فيه المدينة العتيقة تحفه الأشجار على طولة، الا أن العمران الجديد قضى كليا على خارطتها الخضراء.
لكن اي من تلك البساتين كانت تحوي شجر الأرز. في ساحة الدير ستكون الشجرة سيدة المكان، اذا ما قدر لها الحياة في الحديقة المقدسة. يقول القس انه أحضر الهرمونات اللازمة واللواصق الحنونة لاستزراع اشجار غير موجودة بكثرة في البلاد مثل الأرزة.
يقول تقرير لجمعية الحياة البرية الفلسطينية التي تتخذ من المنطقة القريبة من حقل الرعاة الذين بشروا بمولد المسيح مقرا لها، انه لم تحظ منطقة بمثل مساحة فلسطين، بتنوع نباتي. ويعتقد انه هناك أكثر من 2700 صنف من النباتات في فلسطين.
وقال عماد الأطرش الذي يرأس فريقا فلسطينيا لتصنيف مكونات البيئة الفلسطينية لحصرها الكترونيا وهو مشروع شمولي يطرح للمرة الأولى في فلسطين ' هذه الأرض ليست مهد الديانات فقط. انها موئل أشجار تلك الديانات'.
من تلك النباتات شجر السدر والرتم، التي ذكرت في الكتب السماوية، وتعيش ليس على بعد اكثر من كيلو مترا في الاخاديد الواقعة شرق نابلس. تقريبا نظرة من أعالي الدير حيث تعلو الصلبان تقابلها أهلة مساجد نابلس التاريخية التي تتوازى فعليا مع قبلة الموسويين فوق جرزيم، يمكن الإطلال على موئل النباتات الكثيرة التي يحلم نيروز زراعتها في الساحة السفلية.