دمعة على جسد قديس عاد من القبر
- جميل ضبابات
حنت جيرجيرو ساندا رأسها حتى وصل صندوق الجثمان.. وباستسلام تام ارخت كفيها فوق الصندوق الخشبي، الذي يحوي جثمان فيلومينوس.
تحت ضوء متوهج في القاعة، التي غصت بعشرات المؤمنين تمتمت بالدعاء، إلا أن المؤمنة، التي قدمت من رومانيا للأرض المقدسة، لم تكن تعلم تلك اللحظة أنها وضعت يديها على جرح مفتوح للأبد.
في 29 تشرين ثاني عام 1979 قتل فيلومينوس على بعد امتار قليلة من المكان الذي يسجى فيه الان، عندما هاجم مستوطنون دير يعقوب على اطراف نابلس الشرقية، وقطعوا جسده بالبلطات.
بعد 36 عاما على مقتل راعي الدير المولود في اليونان، تعيد تلك الحادثة بالنسبة للكثير من رجال الدين المسحيين الذين يحضرون قداسا في اليوم الذي يصادف تاريخ مقتله، ذكرى صعبه، لجريمة قتل أصبحت تذكر الآن في العالم، استخدم فيها ارهابيون يهود اسلحة بيضاء داخل واحد من الاماكن المقدسة.
لكن ساندا التي بقيت جالسة على مقعد خشبي الى جانب الجثمان مطأطئة الرأس، لم تكن تعلم بتلك القصة من قبل، واكتفت بالقول لمراسل 'وفا' إنها' تتألم من الداخل'.
في المكان الذي يعتقد أن النبي يعقوب حفر به بئره، وجرت فيه حادثة لقاء السامرية فوتيني والمسيح والمشهورة وهي قصة من قصص تراث الاناجيل المتربطة بنابلس، اقيم قداس بحضور اكبر شخصية دينية مسيحية ارثوذكسية، البطريرك ثيوفيلوس الثالث، بطريرك القدس وسائر أعمال فلسطين والأردن للروم الارثوذوكس.
فقط منذ نحو ست سنوات اعيد انتشال جثمان فيلمونوس من قبره، واعيد الى المكان الذي قتل فيه، واعطي صفة القديس فيما بعد، وفي عام 2009 وضع في قائمة قديسي الكنيسة الأرثوذكسية 'السنكسار'.
في هذا الصباح، وصلت ساندا للمشاركة في قداس صادف أن يكون يوم أحد، لكنها قالت، إنها 'ليست المرة الاولى هنا، لقد جئت مرة من قبل، وقفت الى جانبه من قبل' .
واقفين في صف طويل صامت وخاشع يصل المؤمنون ويؤدون التحية ذاتها التي أدتها ساندا للشهيد الممدد داخل الصندوق الموضوع في نفس المكان منذ سنوات، إنه في الحقيقة يوم بامتياز لتذكر شهيد البئر في وقت تشهد فيه المنطقة احداثا امنية دموية كثيرة.
شكل مقتل فيلومينوس حلقة دموية كبيرة في تاريخ الهجمات الدموية، التي شنها متطرفون يهود على مكان مقدس في نابلس. هكذا يتذكر راعي الكنيسة الاسقفية ابراهيم نيروز الذي دعا في يوم سابق للقداس للمشاركة في احياء ذكرى فيلومينوس عبر منشور وضعه على حائط 'فيس بوك' الخاص به.
قال نيروز لمراسل 'وفا': 'كل الكنائس الارثوذكسية في العالم تتذكر الشهيد. لقد وضعته على اجندتها الكنسية'.
في نابلس التي يسكنها اتباع الديانات الابراهيمية الثلاثة بما فيهم الموسويين السامريين، يمكن الاستدلال على نمط ملائم من الحياة الدينية المتكاملة الهادئة.
إن اضواء الدير التي تنير المكان الواسع الذي علقت فيه صور كثير لصاحب الجسد المسجى منذ سنوات، ليست الا اضاءة فعليه على تاريخ الرجل الذي قتل.
راعي الدير اليوناني صلب البنية يوستنيوس ممالوس، الذي تولى ادارته بعد تلك الحادثة، أعاد رسم وجه الرجل كثيرا في كل مكان، لقد خلد وجهه على كل الجدران تقريبا.
في الاسفل داخل غرفة البئر التي قتل فيها ايضا تشاهد رسومات تحمل وجه القتيل. وقيل ايضا من قبل مساعدين ليوستينسوس ممالوس الراعي التاريخي للدير، ان اثار الدماء مازالت على الجدران بعد اكثر من 3 عقود. 'انها مثل جسده رفضت مغادرة المكان'.
واستخدم المستوطنون الذين دخلوا الى البئر ويعتقد انهم انطلقوا من مستوطنة 'الون موريه'، أسلحة مختلفة في هجماتهم للسيطرة على الدير، إلا أن البلطة كانت من نصيب جسد القتيل الذي تتحلق حوله جموع المصلين.
قال نيروز: 'هذا الجسد هنا هو تعبير عن رفض الموت.(...) نحن باقون هنا حتى بعد الموت'. وهو يشير بذلك الى اعادة رفع الجسد بعد دفنه لنحو عقدين من الزمن.
في المقاعد التي خصصت للمرتلين كان ميشيل سعادة بصوته المتهدج يتحدث عن معجزات القديس 'أتراه انه هناك مسجى، في هذا الدير ايضا وقعت العجائب (...)، اننا نفخر بهذا الشهيد'.
داخل الدير لا يصعب العثور على مصلين يحكون قصة فخر عن فيليمونوس، إلا أن الكثيرين من خارج فلسطين، لا يعرفون كيف اصبح شهيدا، بقدر ما يتحدثون عن كونه قديسا.
وقال يوسف سعادة وهو راعي كنيسة الروم الكاثوليك: 'هذه الارض ما زالت تنبت القدسين'.
جالسا على مقعد مقابل للجثمان، قال رجل الدين المعروف في الاوساط الاجتماعية في نابلس: 'هذا الشعب موجود هنا. هنا ايضا موجودة كل الجنسيات'، وبذلك كان يشير الى عديد المصلين الذين قدموا من دول كثيرة لحضور هذا القداس.
عرف ممالوس بأنه الرجل القوي، الذي أعاد بناء الدير بهذه الحلة الأخاذة مرة أخرى. ولد ممالوس أثناء الحرب العالمية الثانية عام في جزيرة كورنو اليونانية.
خلال القداس شوهد ممالوس بلباسه الكهنوتي يلقى بركته على المؤمنين.
ذاتها ساندا شوهدت مرة اخرى تحنى رأسها قرب درج البئر، الذي قتل فيه فيلومينوس، فيما رفع الراهب طرف ردائه والقاه فوق رأسها ليباركها.
إن الدير الذي لا يبعد عن مخيم بلاطة سوى مسافة شارع واحد، ظل طيلة سنوات طويلة واجهة لإطلاق الرصاص. في الداخل حفر ممالوس قبره بيديه وبناه ليشكل رقوده الابدي في هذا المكان. خلال ساعات النهار يشاهد الرجل اما يدور في الساحة حول قبره، او جالسا تحت ظلال ثقيلة للأشجار التي زرعها على مدار العقود الماضية.