موسى حنفي.. حيّ يروي قصة 'حي'
يامن نوباني
في إحدى الفعاليات الوطنية في جامعة بيرزيت، بذكرى انطلاقة الثورة الفلسطينية بتاريخ 1-1-1987، تحولت الفعالية لمسيرة ومواجهات مع الاحتلال، كان الشاب موسى حنفي، المولود في مخيم الشابورة برفح في العام 1963، في المقدمة يحمل علم فلسطين، أصابه رصاص قناص إسرائيلي، وزحف حتى وصل شجرة زيتون، وهنا استشهد.
حمله رفاقه إلى أحد بيوت بلدة بيرزيت، واشتدت المواجهات وحضرت تعزيزات عسكرية كبيرة للبلدة بحثا عن جثمان الشهيد، فنقله الشبان من بيت إلى بيت، قبل أن تتبرع شخصية قيل إنها من أساتذة الجامعة بنقله الى رفح، حيث وضع الشهيد بين شابين شجاعين تبرعا بإسناده على كتفيهما، ووضعت كوفية على رقبته ونظارة شمسية على عينيه، وحين وصلوا الحاجز أخرجوا البطاقات الشخصية، وقالوا للجنود إن موسى مريض جدا ومُغمى عليه، وهكذا عاد موسى إلى رفح.
يروي موسى حنفي (28 عاما) من رفح، تفاصيل إطلاق اسم موسى عليه، وحكاية عمه الشهيد، التي سمعها من عائلته وبخاصة والدة الشهيد، فاطمة حنفي 'أم حمادة'، فيقول: قبل استشهاده دار بينه وبين والدته حوار، قال لها: لو قالوا لك موسى اعتقل؟ ردت: يا خيبتي لا تحكي هالحكي، الله لا يقدّر'، لو قالوا لك موسى أصيب؟ ردت باكية: بدعيلوا الله يحفظوا ويحميه. ثم قال لها: طيب يمّا هذا آخر سؤال: لو قالوا لك موسى استشهد؟ فدمعت عيناها وبكت ونظرت إليه بقلق وحرقة قائلة: 'موسى لا تروح على بيرزيت'.
وفي تفاصيل التفاصيل، ليوم استشهاد موسى، يروي ابن أخيه موسى: كانت فاطمة 'أم حماده'، متجهة إلى بسطة والده، لتوصل لها طعام الإفطار، وأثناء مشيها في السوق سمعت في الراديو خبر استشهاد شاب من غزة في جامعة بيرزيت، اسمه موسى حنيف! ورغم أن الاسم كان مغلوطاً في الأخبار إلا أنها صرخت 'موسى راح' ، وحملت نفسها مباشرة الى الضفة، لكن جثمان ابنها الشهيد وصل قبلها، في وقت كان فيه مخيم الشابورة يشهد توترا كبيرا بعد علم الاحتلال بوصول الجثمان والاستعدادات للجنازة.
أخفى شبان المخيم جثمان موسى في حقل برتقال قريب، لحين عودة والدته، وفي المساء جرى تشييعه بالتحدي والغضب، وكان وداعا حاشدا للشهيد.
ويتابع: ليلة استشهاده، قال لنا أصدقاؤه الذين سهروا معه في سكن الطلاب بعمارة عصفور، إنه قال لهم: لو استشهدت أمي حتنام في البرية (المقبرة)، وفعلا هذا ما حدث، رغم أن جدتي مشهور عنها قوة قلبها وصلابتها، إلا أنها على مدار سنة كاملة بقيت في 'البرية' تائهة ومأخوذة بابنها الشهيد.
وقفت الوالدة فوق قبر موسى بعد دفنه، تارة تهمس له وتارة تزغرد، وتارة تخطب خطاباً ثوريا، ثم تنفجر باكية. الحاكم العسكري الإسرائيلي استدعى والد الشهيد وهدده بهدم البيت اذا لم تهدأ الأوضاع، فكان رده: قتلتوا ابني وجايين تمنعوا الناس تغضب على قتله! واستمر بيت العزاء 40 يوما، حيث كان الأسير القيادي في فتح مروان البرغوثي عريف التأبين، ونام في بيت الشهيد أسبوعا كاملا، فيما حضر المئات من الضفة يوميا لتقديم واجب العزاء.
ومن مواقف الرجولة للشهيد، أنه في إحدى اقتحامات مخيم الشابورة، كان موسى يجلس على عتبة بيته، واضعا حذاءه بجانبه استعدادا لارتدائه والسفر إلى بيرزيت، هرب الناس من أزقة المخيم وبقي موسى على العتبة، وصله الجنود وطلبوا منه بطاقته الشخصية، ولم يرفع رأسه للنظر اليهم، نادى شقيقه الصغير وطلب منه إحضار بطاقته وإعطائها للجنود، بينما استمر في ارتداء الحذاء.
يعود موسى، في الحديث الى البدايات والارتباط العائلي بالتعليم، والذي كان الشهيد موسى الدافع والمحرك لتصل العائلة الى العلو بتعليم أبنائها، فيقول: وعيت على الدنيا وعمي الشهيد موسى حيّ في كل تفاصيلي وتفاصيل العائلة والأصدقاء. أشقاؤه يهدونه كل منجز أكاديمي لهم، وجدتي منذ يوم استشهاده تصلي عنه كل الصلوات، 28 عاما وهي تصلي كل صلاة مرتين، وأيضاً أحد أصدقاء موسى، واسمه خالد، وهو الآن يعمل مدير مدرسة، يدعو له في كل صلاة منذ استشهاده، ويتذكر كم كان الشهيد إنسانا وعاطفيا.
ويضيف: والد الشهيد (مصباح حنفي) الذي يعمل على بسطة خضار في الشابورة، لديه 11 ابنا بينهم 4 إناث، ثلاثة منهم يحملون شهادة الدكتوراه والباقون درجة الماجستير، وكان موسى من أوائل دفعته، في تخصص التاريخ والعلوم السياسية. معظم فصول دراسته كانت منحا لتفوقه، يحبه الطلبة والأصدقاء والأساتذة، عمي طارق كان أقرب الناس من الشهيد، ولأن الشهيد كان يحلم بأن يكمل دراسته العليا، فهذا دفع طارق لأن يذهب إلى بيرزيت ويدرس فيها، رغم اشتعال الانتفاضة الأولى واعتقاله عدة مرات، وبعد تخرجه طلبه الدكتور ابراهيم أبو لغد، الذي كان يُقدر الشهيد موسى، ووفر له منحه لدراسة الماجستير في النرويج، ثم حصل على منحة من 'الداد' حيث عاد بالدكتوراه من ألمانيا، فيما كان الدافع الحقيقي لكل هذه الإنجازات التعليمية استشهاد شقيقه موسى.
ويتابع: بعد أشهر قليلة من استشهاد عمي موسى، وقفت جدتي أمام غرفة التوليد في مستشفى ناصر، ودعت الله أن يكون المولود ذكرا، وحين ولدت سجدَت لله على الأرض، وحملوني الى المقبرة مباشرة قبل الوصول الى البيت، وقال أبي فوق قبر عمي: عوضنا الله بموسى.
ويروي موسى، أن والدة الشهيد تحتفظ بأشيائه ومنها ملابسة التي استشهد وهويرتديها، في خزانة خاصة، الأم التي عادت لمكان استشهاد ابنها، وأحضرت ترابا من تحت الزيتونة التي رواها بدمه، ولفت حفنة التراب مع ورق من شجرة الزيتون بمنديل من مناديلها، وكل قصاصات الورق الخاصة به، والتعازي بالجرائد والمقولات عن استشهاده.
في أغنية وطنية مؤلمة، إهداءً لروح وذكرى الشهيد موسى حنفي، من كلمات إبراهيم المزين، يقف عبد المنعم عدوان على المسرح، ويغني: وقفوا صفوف صفوفي، وسحجوا على الكفوفي، أجت أمه، يا عزيزة يا مغندره، يا دمعه يا سكرة، عريسنا مبدر عَ وين، عريسنا بغفي العين، امو ردي يا امو ليش الورد ملثم ع ثمه، والحديد على كتفو ما همو ما همو، مع الندى طالع، طالع لحالو، قزولوا خواله تَ يلفو يلمو جماله.