راكب الريح.. رواية غنية بالمعرفة والمتعة والتشويق- فتحي البس
رواية " راكب الريح" ليحيى يخلف غنية بالمعرفة والمتعة والتشويق غير المحدود، وهي الأركان الأساسية لأي رواية تعيش طويلاً.
في الرواية معرفة تاريخية وحضارية وثقافية وفنية وجغرافية، وفيها متعة الفن الجميل، تنقل القارئ بين جمال الخط العربي وإبداعه والرقش والتزويق والتزيين، وأسماء المدن والنباتات والحيوانات والسلوك الانساني والطبيعي للبشر وللحيوانات والطيور، وجمال روح الانسان والطبيعة المتنوعة والغنية، إضافة إلى فن الرسم وطرقه وأدواته وألوانه، والأزياء رائعة التصميم، الغنية بالألوان التي تعكس طبيعة الحياة الاجتماعية في يافا وبلاد الشام وتركيا والهند، كما تنقل الرواية القارئ إلى ابداع الفكر ومعنى التنوع في المواقف والرؤى واختلاف الأديان وجوهرها المشترك، والتعايش بينها على ارضية احترام حق الاختلاف والحياة ونبذ العنف والعدوان وتغوّل أصحاب معتقد على آخر وإظهار طبيعة الصراع بين الغرب المعتدي على شرق غنيّ بالروح التي تتوق إلى تكريس المحبة وتنوع الثقافات والطوائف والمعتقدات، مع غوصٍ جميل في كل صفحات الرواية في النفس البشرية وشهواتها ومحاولة خلق توازن بين الرغبة والقدرة، بين الطاقة الهائلة للانسان، ومركز العقل والتحكم الذي يكبح جماحها ويؤنسنها فالطاقة التي ينسبها الانسان الى قوة خارقة أخرى خارجه، يمكن أن يعالجها العلم والفكر والتدريب على توجيهها إلى مقاصد أخرى مختلفة، تجعل الحياة أجمل.
وضع كل ما سبق في بناء روائي محكم، فيه هندسة وبناء، لبنة فوق أخرى، بلغة رشيقة بعيدة عن الحشو، سلسة، مفهومة، تحث مفرداتها القارئ على البحث الأوسع عن معان يجهلها، غير المعروفة أو المستخدمة في وصف أدوات الفن والرسم والبناء وخلافها من فنون الحياة الغنية والجميلة.
بعد الانتهاء من القراءة، يدرك القارئ مهارة الكاتب في بناء الشخصية الرئيسية منذ السطر الاول وحتى الخاتمة، كأنه وضع البداية والنهاية وسار بينهما بحرفية عالية، لم يترك العنان لخيال يبعده عن السير الدقيق نحو النهاية، ولم يترك تفاصيل الحياة اليومية تبعده عن دقة التخطيط لنصه ولمضمونه. استفاد من التاريخ وما تراكم لديه من معرفة ثقافية حضارية غنية بناها بجهد الباحث وكأنه أمضى وقتا طويلا في الاطلاع والقراءة والتمعن والتبصر في ادق تفاصيل الحياة الاجتماعية للحقبة التاريخية التي اختار أن يعيش فيها شخصيات روايته وهي الممتدة من بين ولادة يوسف، الشخصية الرئيسية، في يافا، لأب امتهن التجارة فخرج عن تقاليد أسرته في امتهان صيد السمك، يوم غزا القائد المصري محمد بك أبو الذهب لافتكاكها من الزعيم ظاهر العمر، لإعادتها إلى حظيرة الامبراطورية العثمانية، في تلك الايام التي شهدت حربا دموية وتخريبا وخرابا، إلى غزو نابليون لفلسطين وهزيمته المدوية بعد أن دمر يافا وقتل جنوده بوحشية عددا كبيرا من السكان وخربوا كل ما فيها، واغتصبوا النساء وعاثوا في الارض فسادا، ليعود أهل يافا للبناء من جديد.
ينبغ يوسف ويظهر مهارة عالية في تعلم فنون الخط والرسم ويظهر تفوقه على أقرانه، في ركوب الريح، للقفز من اعلى برج على سور يافا الى البحر، يثب وثبة نمر، يطير في الفراغ، فيحظى بإعجاب كل سكان يافا بمن فيهم نساء حرملك الوالي العثماني، ويصبح قبلة للنساء من كل الطبقات، يرمن وصاله، فتظهر قدراته الخارقة، عندما واجه الحوت الذي سكن امامه هادئا محملقا فيه فعاد ادراجه دون ان يؤذيه، فظن الوالي العثماني وأهل يافا، أنه حوت النبي يونس، وأن للفتى قدرات خارقة، تكرست عندما حرقت شفاهه خد امرأة فتركت شفاهه علامة لا تمحى، جعلته يظن أن قواه الخارقة هي لقرين يسكنه، فأرقه ذلك، وجعله يبحث على مدار احداث الرواية عن خلاص من هذا القرين، الذي مكنه من هزيمة الانكشاريين عندما تعدّوا على أهل يافا ضمن صراع مع السلطان العثماني وواليه على يافا، فكان السبب في نفيه من يافا وابعاده عن المرأة فائقة الجمال، التي أبدع في رسمها مقابل وعد بقبلة خاف أن يحصل عليها شفقة عليها من الحريق، إلى الشام لدراسة هندسة العمارة.
احداث الرواية بعدها تتعرج وتتشعب، يبحث عن الحياة والعلم والمعرفة، فتظهر امرأة الغواية التي تظن أنها تذل العشاق، تنصب له كمينا، يثير القرين في داخله، فيتبعه بحثا عن المغامرة، فيعتقل ويهان، ليعود ليقبل التحدي،عندما تتبعه من تظن أنها كملكة النحل، تقتل عاشقها ليلة التزاوج، شريرة ماكرة لكنها فائقة الجمال، فيحرقها في ليلة متعة لا نظير لها، لكن ذلك يحدث في المنام، فيكون قرينه قوة كامنة للخير وليس للشر، يمكنه من انقاذ غزال من براثن ذئب، فيصبح صديقه في رحلة الى أضنة، لخط وتزويق وتزيين كتاب لحكيم هندي يريد أن يوصل حكمة الشرق الى الغرب المعتدي.
يبرع يحيى يخلف في سرد الاحداث الى حين عودة يوسف الى يافا، بعد أن تعلم من الحكيم الهندي فنون السيطرة الايجابية عل القوة الخارقة التي تكمن في داخله، فهي له وليس للقرين، يمكنه التحكم بها من مركز العقل والتأمل الايجابي، فيستخدمها في قتال جنود نابليون، ويصل الى يافا، حيث الدمار يعم المدينة، يموت والديه، وينقذ اليعطموس، المرأة التي سكنته في حله وترحاله ويحصل على ثمن رسمها قبلته الموعودة دون حريق بعد ترويض "القرين"، ويشارك في عودة الحياة الى يافا، ولا يحظى من الحب والمرأة إلا بما هو انساني وجميل.
رواية تثير في النفس الرضى والانفعالات الايجابية، مادتها تجمع بين الاسطورة والخيال والواقع والتاريخ الذي يؤكد أن فلسطين تتعرض دوما للغزو والعدوان، والتدمير بغطرسة القوة، لكن لأهلها قدرات خارقة للانتصار على العدوان والنهوض من جديد.
يحيى يخلف، ركب الريح صندل في هذه الرواية.
يحيى يخلف بعد هذه الرواية المختلفة تماما عن كتاباته السابقة، صعد إلى قمة عالية، تفرض عليه مسؤولية الصعود الأعلى لتجاوزها في أعماله المقبلة.
fathibiss@hotmail.com