من رام الله إلى نابلس .. حكاية وادي البلاط وكرامة الشهيد- أمل دويكات
أحاطت الغبطة بالركاب بعد أن أزيلت المكعبات الإسمنتية عن طريق البيرة – الجلزون قرب مستوطنة "بيت إيل" الجاثمة على أراضي المدينة شمالاً، لكن دوار (عين سينيا) شمال رام الله لا بد أن يعكّر صفو المارين عنه حاجزٌ طيار يوضع حسب "مزاج" هذا الجندي أو ذاك.
ومن هناك بدأ السائق "أبو عماد" يروي لنا صفحة أخرى من تاريخ فلسطين الذي ربما لم نقرأه جميعاً.. بعد اجتيازنا الحاجز المزاجي، مررنا في الطريق المتعرجة الواصلة بين دوار عين سينيا ومفرق منطقة "عيون الحراميّة"، وكانت تلك المنطقة بالتحديد غير مُعَرّفة بالنسبة لي من قبل، عندها قال أبو عماد "هذه المنطقة تسمّى وادي البلاط، وذلك لأن صخورها المترامية على جانبي الطريق تشبه قطع البلاط" وحينئذ بدأتُ أنظر إلى الصخور بعين جديدة فاحصة، إنها تشبه قطع البلاط فعلاً، رغم اعتيادي النظر إليها بشكل يومي، لكن كلمات السائق أضافت معانٍ استوجبت إعادة النظر.
قال أحد الركاب موجهاً كلامه لأبي عماد "أول مرّة بسمع بهالاسم" فرد أبو عماد بحرقة "طبعا ما بتعرف، وطبعا الشعب الفلسطيني بيجهل بلاده وأسماء مناطقها.. إذا كان إعلامنا نفسه بيلفظ أسماء المناطق والقرى بطريقة خطأ، أكيد بدنا نكون جاهلين ببلادنا وما بنعرفها.. المذيعين بيقولوا "قَرْوة" بدل "قراوة" وبيقولوا "مَرَدّة" بدل "مَرْدَة" وبيقولوا "صُرَّة" بدل "صَرَّة"! (...) عباراتهم خاطئة لغوياً وقواعدياً وحتى معنوياً! إعلامنا بيغلط حتى بتحديد الأماكن والمواقع.."
ونحن نَمُر تحت رايات الاحتلال بين نقطة وأخرى، يتابع أبو عماد حديثه "لم نعد نزرع أرضنا، نبني مستوطنات الاحتلال التي نطالبه بأن ينسحب منها!!" يرد الراكب نفسه "ما في فرص عمل يا أبو عماد" صاح أبو عماد مباشرة "ما في فرص! تركنا أرضنا، ما فلحناها من سنوات طويلة، وبدل ما ناكل من خيرها صرنا نبني مستوطنات الاحتلال" البعض وافق والبعض ابتسم والبعض لم يكترث لحرقة أبي عماد على الأرض المترامية حولنا.
ومن إصلاح الوضع الاقتصادي، يتحول أبو عماد إلى حديث آخر، حينما انعطفت السيارة بنا عن مفرق قرية زعترة جنوب نابلس، هناك تربض شجرة تين مثمرة طوال العام حسبما يقول السائق الستيني، والسرّ في ذلك كما قال هو أنه يقبع تحت ترابها "جثمان ضابط أردني استشهد سنة 1967"، ويؤكد أبو عماد أنه شاهد الجثمان بأم عينه حين كان برفقة والده وهما يعملان في المنطقة مزارعَين "كان عمري 12 سنة، وشفته أنا ووالدي، يبدو كان مستشهد قبل كم يوم، وما كان مدفون، وفي النهاية صاحب البيت القريب من الأرض، دفنه تحت التراب وجثمانه تحت الشجرة المثمرة لليوم، وهي أكيد كرامة من كرامات الشهيد".
الكلمات التي قالها أبو عماد للتو أثارت انتباهي، وكنت قد شارفت على ولوج غفوة وتنبّهت لقصة جثمان الشهيد القابع تحت هذه الأرض، والتي تطرح ثمراً طوال العام، فسألت هل يمكنني رؤية القبر تحديداً، أجاب أبو عماد: طبعا لا، لأنه كان وقت طويل بدون دفن، وبالنهاية رجل حفر له حفرة تحت الشجرة ودفنه.
وانتهت الرحلة مع أبي عماد بابتسامة أحدهم قائلا: لازم ندفع لأبو عماد 5 شواقل زيادة بعد حصته الممتازة عن التاريخ والبلاد، فضحكت وضحك الجميع.
عن الحياة الجديدة