أبو لبدة: ست عملات شهدت تجارة مسن!
عبد الباسط خلف: تتخذ التجاعيد مكانًا دائماً في وجه التسعيني عطا محمود أبو لبدة، فيما تختزن ذاكرته حكايات عتيقة لتاجر عمل طوال ثمانية عقود، ولا زال يجلس في متجره وسط جنين، بعد أن أقصته النكبة عن قريته صبارين.
يُعيد أبو لبدة عجلة الزمن إلى الوراء: درست حتى الصف الثالث في بلدتنا المجاورة لحيفا، ثم بدأت أعمل في تجارة الحبوب والأبقار، وأسست دكانة في برطعة الشرقية قرب جنين عملت فيها عشر سنوات، ثم انتقلت إلى جنين العام 1960، ولا زلت أعمل في التجارة.
وفق الحاج عطا، الذي أبصر النور في أيار 1919، وبدأ بالعمل بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، فقد عرفت تجارته الجنيه الفلسطيني، والدينار العراقي؛ عندما كان المحاربون الذين أقاموا في جنين يدفعون به قبل النكبة خلال تواجدهم في المدينة، والدينار الأردني، والشيقل الإسرائيلي، والدولار الأمريكي، واليورو، مثلما كانت بضائعه شاهدة على الحرب العالمية الثانية، وثورة العام 1936، والنكبة التي تلتها بعد 12 سنة، والعدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، وهزيمة العام 1967، وحرب تشرين العام 1973، واحتلال لبنان 1982، وحرب الخليج بنسخها المختلفة، والانتفاضات والهبات الشعبية العامين 1987، و2000 والثورات العربية المختلفة التي يعاصرها اليوم.
يضحك أبو عدنان، عندما يسترجع ثمن السلع التي كانت دارجة؛ فالبقرة الواحدة كانت تُباع بثلاثة جنيهات بسعر دونم من الأرض، أما زمبيل التمر ( يزن 28 كيلوغراما) فلم يتعد ثمنه 25 قرشاً، فيما كانت الأصناف الدارجة قليلة، فالأرز والسكر من مصر، والتمر من العراق، والملح من حيفا، والزيت من نابلس، بينما اختفت عشرات السلع وطريقة الاتجار بها، فلم يعد الدبس والتمر والكاز وأكياس البطاطا ومستلزمات (وابور) موجودة، واختفت طريقة بيع السمن والطحينية، فكانت تأتي بعبوات كبيرة ويشتريها الزبائن بالمفرق، أما السلع الصينية فلم يكن لها أي وجود.
يضيف: "زمان كانت العيشة أحسن، وما كان بدنا رأس مال كبير، وما عرفنا الحدود والحواجز والاحتلال، فكنا نذهب إلى الخالصة( في أقصى شمال فلسطين)، أما العملة فكانت أكثر بركة، ولم تكن هناك سيارات، ومن أراد شراء سلعة للقرى يوصلها على ظهر الجمال والدواب الأخرى."
يحن أبو لبدة إلى أيام صبارين وتجارته وذكريات مدرسته وبيته وأرضه، حيث عمل في طفولته بحقل زيتون العائلة، وتزوج العام 1936، وفقد أول ابنه وابنه يرزق بهما بعد سنوات قليلة من ولادتهما في صبارين. وقضى ابنه الوحيد عدنان العام 1998(عن 55 عاماً)، فيما تسكن بناته الأربع في الأردن، وصار اليوم الجد الرابع لأحفاد أحفاده.
يتابع والحنين يسكنه للعودة إلى مسقط رأسه: كانت جنين مليئة بالبساتين، والمياه، وبيارات البرتقال، ولم يكن فيها غير سبعة تجار، وسيارتين، ولم تكن الثمار تأتي إلى الأسواق إلا في موعدها، أما اليوم فانقلبت الدنيا، وتغيرت الحياة.