دير مار جريس: معجزة العمران والجثمان الذي لم يتحلل
رحمة حجة- يَظهر الصليبُ الأول، ثم الثاني، وبعدها تصطاد صلبانٌ أخرى نظرك موزعة في اتجاهات عديدة، فقط لتقول لك وأنت تمشي في وادي القلط، هنا يقع دير القديس سان جورج.
لم ينته الأمر عند الصليب الأول بالنسبة للآتي من "مطلة وادي القلط" سيرًا على أقدامه، فعشرات الدرجات المصنوعة من الصخر ستمشيها هبوطًا، حتى الوصول إلى مفترق، بين واحةٍ من الأشجار والمياه الجارية، ونخلة باسقة، تقول لك اذهب يسارًا واصعد الجبل، حيث هندسة معمارية عريقة نُحتت في صخر الوادي، تحمل الكثير من التاريخ والهموم، كما تحمل أحلام زوارها من المسيحيين المتدينين الذين يُبرقونها على ورق يخبئونه في زوايا الكنيسة.
يقول الزميل أنطون بلوط في تقرير تلفزيوني، إن هذا الدير يتبع كنيسة الروم الأرثوذكس, لذا نرى علم اليونان يرفرف أعلاه، وهو بعيدٌ عن صخب الحياة اليومية في مدينة أريحا، ويستقبل الزوار أربع ساعات يوميًا.
وبنى الدير يوحنا الطيبي (من مدينة طيبة المصرية، الأقصر حاليًا)، وفي القرن السادس سُميّ الدير "سان جورج" نسبة إلى القديس جورج الخزيفي من قبرص الذي تَنسّك بالمنطقة.
ولا يزال جثمان الخزيفي كما هو دون أن يتحلل منذ وفاته وهو محفوظٌ في صندوق زجاجي، يجده الزائر لكنيسة الدير، وهو بمثابة معجزة بالنسبة لمسيحيي الروم الأرثوذوكس، لذا يحجّون إلى الدير من مختلف أنحاء العالم، للفُرجة والتَبرّك.
وإلى جانب الجثمان، تلاحظ عددًا من الجماجم، وهي لرهبان قتلوا على يد الفرس عام 614، وتم العثور على هذه الجماجم أثناء عمليات التنقيب وترميم الدير لاحقا.
أما أرضية الغرفة التي يوجد بها جثمان الخزيفي فتزيّنها الفسيفساء التي تعود للقرن السابع والثاني عشر.
وفي عام 1179 قام الصليبيون بترميم الدير، ثم هُجر لفترة طويلة حتى جاء راهب يوناني اسمه كالينيكوس 1878 قام ببنائه وترميمه مجددًا وسكن فيه حتى عام 1901، وفق بلوط.
يقول المرشد السياحي خضر نجم، إن "مار جريس" الواقع في برية القدس شرق الخان الأحمر "أحد أديرة الزهد والتصوّف، وهو بعيدٌ في الصحراء هربًا من بطش الروم، ويُعتقد أن الدير بني أعلى المغارة التي اعتكف فيها والد مريم العذراء، القديس يواكيم، كما أن الدير يسمح بدخول النساء إليه.
ودمر الفُرس الدير في الحرب التي جاء ذكرها في القرآن الكريم، وفق ما يقول نجم "غلبت الروم بأدنى الأرض"، وبعدها فُتح المسلمون الاوائل بلاد الشام.
الطريق إلى الأعلى حيث الدير معبّدة بالخرسانة، وعدد من الحمير يصطف إلى يمينك، ينادي أصحابهم بلغات عدة على الزوّار الأجانب، لاستقطابهم في جولة أو مجرّد رجوع إلى مدخل الدير، بعدد من اليوروات، ولا يكترثون لسؤالك إن كنتَ تشبههم شكلًا، أو تنطق العربية.
وقبل الوصول لبوابة الكنيسة، انظر إلى الأعلى من جهة اليمين، لتجد مغارة صغيرة، تحتها سلم خشبي صغير، مخصصة ليقضي فيها راهب واحد طقوس عبادته لمدة تصل شهورًا، دون أن يهبط منها، وخلال تلك الفترة يكون الماء والطعام متوفرًا، كما يوجد في المغارة مكان مخصص لقضاء الحاجة.
وإلى يسارنا في الأسفل أضرحة عديدة، يبدو أنها للرهبان الذين توفوا في الدير، لتحتضن الأرض المقدسة أجسادهم. في ذلك يقول أنطون بلوط "كتب على الأضرحة: المسيح ينتصر".
قبل دخول الكنيسة، سترى شروطًا للعبور تتعلق بالملابس والكاميرات وغيرها، لكن إذا كنت امرأة وترتدين بنطالًا ولا تملكين في تلك اللحظة تنورة مناسبة للدخول، لن يمنعك أحد.
تصعد الدرج إلى الأعلى، بعد أن تلتقي بأغصان "المجنونة" زهرية اللون التي تتدلى على البوابة، وعن الصعود المستمر يشير بلوط إلى أنها "ميزة الكنائس، وهي تعبر بشكل رمزي عن الذهاب للقاء السيد المسيح".
جنسياتٌ مختلفة تزور هذا الدير، وتتحرك بين غرف الكنيسة، لتطلع على الذخائر والآثار المعروضة فيها منذ لحظة التأسيس، وداخل غرفة رقود جثمان القديس الخزيفي، لا ضوء سوى الشموع، ولا صوت سوى التراتيل، وبعض الدموع والقُبَل من خلف الزجاج.
يقول أحد الزوّار لنا بالإنجليزية، إن راهبًا رومانيًا عاش هنا خلال الحرب العالمية الثانية، وكان السكان البدو المحيطون بالدير يلجأون إليه للتطبب، لذا أطلقوا عليه اسم "الدكتور" بينما لم يكن طبيبًا.
تتجوّل في محيط الكنيسة، فترى قطّة تستريح في جوف التاريخ والحكايات، تنظر بصمت إلى الموجودين، بينما رجل يوزع كؤوس الشاي بنكهة الريحان، وليس ألّذ من هذه اللحظة التي تشرب فيها شايَك، في الشرفة، حيث الوادي، ومشهدٌ خلّاب لكل المنطقة المحيطة بأشجارها وقنوات المياه التي تضفي البهجة إلى نفوس المارّين بخرير الماء الذي لا يتوقف عن الجريان فيها.
لا نجد الأب أنطونيوس، لنتحدث معه، فهو المسؤول عن الدير ومن يمكنه التحدّث فقط للإعلام.
وعن حياة الرهبان داخل الدير، يقول بلوط: "العلاقة في ما بينهم من صنف الكينوبيو، أي أنهم يعيشون معًا، وهم يختارون الأب لمدى الحياة لكن تحت مظلة البطريركية، بينما الصنف الثاني لحياة الرهبان هو الإيرمو، أي أن كل راهب يعيش في بيته ويظل يصلّي داخل غرفته وحده، والصنف الثالث يُدعى لاورا، يجمع بين الأولى والثانية، فيصلي الناسك وحيدًا في غرفته، ثم يلتقي السبت والأحد مع الرهبان للصلاة معًا".
عن الحياة الجديدة