فخري البرغوثي: 34 نجمة تلمع فوق مجد كفاحه
عواد الجعفري: يبدو منزل الأسير المحرر فخري البرغوثي(57عاما) معرض صور يختصر قصة الشعب في مقاومة الاحتلال: هذه صورة فخري في الأسر مع نجله شادي، وتلك صورة تجمعه مع ابن عمه نائل، وثالثة لشقيق استشهد في سبعينيات القرن الماضي، وصور عديدة تكشف سر تاريخ كفاحه الوطني، ومدى انغماس العائلة في المقاومة وألم الأسر خلف القضبان.
استطعنا أن نسرق بعض الوقت من الأسير المحرر فخري في منزله بقرية كوبر شمال غرب رام الله، في يوم ماطر، رغم ازدحام قائمة الزوار التي لم تنته منذ شهر، إضافة إلى استعدادات العائلة، لدخول ابن عمه نائل القفص الذهبي بعد 34 عاما في سجون الاحتلال.
يروي الأسير المحرر وقد حمل حفيدته بين يديه، و شقت الفرحة الأغلى طريقها إلى ملامح وجهه، بعد سنوات الصبر الطويلة التي وصلت إلى 34 عاما. خلال ساعتين روى قصصا زاخرة بالتفاصيل، ولا يمكن أن نختصر تجربة 34 عاما في وقت وجيز:" أنا من مواليد العام 1954، وقد ترعرعت كأبناء القرية على الزراعة، إلى أن احتل الإسرائيليون الضفة الغربية، وأصبح الاحتلال متغلغلا في حياتنا، موزعا الظلم على جميع المواطنين. وما دام الاحتلال موجودا، فلا يمكن للفلسطيني أن يبقى مكتوف الأيدي. الفلسطيني كغيره لا يرضى بالظلم، وكانت نتيجة ذلك أن قتلت ضابطا في جيش الاحتلال عام 1978، وقد اعتقلت برفقة ابن عمي نائل في رام الله، وحكم على كلينا بالسجن المؤبد".
ترك الأسير فخري البرغوثي، خلفه زوجة وأبناء، فقد مضى على زواجه عامان، عند اعتقاله، وكان ابنه الأكبر شادي يبلغ من العمر 11 شهرا، فيما كان نجله هادي في بطن أمه. أخذت زوجته الصابرة على عاتقها دور الأم والأب معا، لتربي الطفلين، اللذين كبرا وأصبحا رجالا، في ظل غياب الوالد.
يمضي البرغوثي:" زج الاحتلال بنا في مقابر الأحياء. ظنا من أنه سيكسر إرادتنا. الحياة في السجون صعبة، حتى ولو لساعة، لكننا صبرنا. وكانت الإضرابات عن الطعام هي الأصعب في تجربة السجون، فقد خضنا إضرابا العام 1980 وصل إلى 33 يوما، لتوفير حياة كريمة تليق بالبشر. لم نكن نطلب العيش في فنادق بل أسرة حديثة أفضل من الفراش( فرشات من الإسفنج). الذي كنا نستلقي عليه، ولاسيما أنه( الفراش) لم يكن سوى غطاء رقيق، يشبه أي شيء سوى الفراش، وإضراب ثاني من أجل المخدات( الوسائد)، وإضراب ثالث من أجل إدخال الكتب والدفاتر والأقلام، التي كانت محظورة في السابق. إلى أن جاء إضراب عام 1985، الذي استمر 23 يوما، لأجل إدخال التلفزيون والإذاعة. وقد أذعن السجان لمطالبنا، وسمح بإدخاله لنا، وكانت قناة التلفاز الوحيدة هي إسرائيل، ولم يسمح لنا بمشاهدته بعد الساعة العاشرة مساءً، وإضراب التضامن مع القيادة الموحدة للانتفاضة الأولى عام 1988 وإضراب عام 1993 احتجاجا على تنفيذ اتفاقية غزة أريحا في الشق المتعلق بالأسرى. هذه كانت أهم الإضراب التي انتزاعنا عبرها حقوقنا من السجان وليس منة منه".
طوال فترة اعتقال فخري البرغوثي الممتدة إلى 34 عاما، كان هناك يا يزيد عن عشر صفقات تبادل بين إسرائيل والعرب، ناهيك عن اتفاق أوسلو عام 1993، فماذا كانت ردة فعل فخري على استثنائه منها:" بالطبع كانت هناك خيبات أمل كبيرة من استثنائي كغيري من الأسرى من هذه الصفقات، ولا سيما صفقة أحمد جبريل عام 1985، حينما كان اسمي ضمن القوائم وكان من المفروض أن أخرج، والعائلة استعدت لخروجي، لكنني لم أخرج. رغم ذلك لم أفقد الأمل، فلا حياة لإنسان دون أمل وهدف في الحياة".
ويعتب البرغوثي على القيادة السياسية، التي أهملت ملف الأسرى كثيرا:" كان عليها بعدما قدمت التنازلات في أوسلو أن تضع الأسرى على سلم الأولويات، لكنها لم تفعل، رغم تحسن أدائها بعد خطاب الرئيس ومطالبته بالإفراج عن الأسرى، والعمل من أجل قضيتهم".
الحياة داخل سجون الاحتلال مرتبطة دوما بالثقافة والقراءة، فالبرغوثي كان قارئ نهما لكل منابع الثقافة ، فقد أتم قراءة ما يزيد عن 2000 كتاب:" قرأت عن الثورات في العالم، من بلد المليون شهيد( الجزائر) إلى ثورات فيتنام و أفريقيا وأميركا الجنوبية، كما تعمقت في تجربة مقارعة غاندي للاستعمار البريطاني، ومن هنا أصبحت إنساني أكثر مني فلسطيني، فرأيت ما يجمعني بكل الثوار في العالم ضد الظلم، فالحر أينما كان يرفض الظلم، كما أنني قرأت كثيرا لكتّاب إسرائيليين في كرئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو، ففي كتابه صدق فكرة غياب السلام من عقولهم، فهو يوضح بدون أدنى شك بأنه لا سلام مع الفلسطينيين، وأن المهم هو السيطرة على الأراضي الفسطينية، علاوة على قراءة بقية الكتب الإسرائيلية التي توضح مدى عنصريتهم".
كبر الأولاد في الخارج، وأصبحوا رجالا ولم يعد الأبد، فقد ذهبوا إليه بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، فقد سجن شادي وهادي، في السجن ذاته الذي يقبع فيه الأب:"شهدت خبرا يفيد باعتقالهما بنشرة التلفزيون الإسرائيلي. ثم جاء ذلك اليوم، كان يوما عصيبا حينما تعرفت على أبنائي في سجن عسقلان، بعد 27 عاما من الفراق". يضيف البرغوثي وهو يكفف دموعه:" لقد بكينا كثيرا. كل الأسرى كان يبكون".
وكان البرغوثي يعاملهم كأصدقاء لا أبناء، فقد حدث أن يناديه شادي " يابا يابا"، فلا يريد الوالد،" كوني لا أسمع هذه الكلمة منذ فترة طويلة. كنت متعودا على كلمة فخري، وعندما قال شادي "يابا" رددت عليه. هذه نتيجة الفراق الطويل عن الأحبة".
34 عاما، مدة طويلة تغيرت فيها الحياة كثيرا، فالبرغوثي عاد إلى رام الله جديدة مختلفة عما كانت عليه عندما تركها عام 1978:" رام الله التي عرفتها تغيرت بنسبة 99%، فلم يكن هناك أي بناء بعد دوار المنارة في اتجاه الإرسال، كما أنني لم أعرف أحدا بالقرية، التي تركتها دون كهرباء، واليوم يوجد فيها كمبيوترات. التغيير مفرح ومحزن في آن، فالبناء معناه إيجابي بمواصلة الحياة رغم الاحتلال، لكن المحزن هو التمدد الاستيطاني والجدار على أرضنا".
لم يصدق البرغوثي ما يشاهده لحظة التحرير:" لم يكن بالإمكان تصور الواقع داخل السجن، فأثناء خروجنا في الصفقة، شاهدنا الجبال والأشجار والبشر، كأنها صور تلفزيونية حتى وصولنا إلى مقر المقاطعة في رام الله، وعندما استقبلنا الآلاف من أبناء شعبنا، غسلت آلم وعذابات الأعوام الطويلة في سجون الاحتلال كأنها لم تكن".
يحاول فخري أن يواصل ما تبقى من حياته في تربية أحفاد أبناءه شادي وهادي. كما أن تركه شادي في السجن جعل غصة الألم باقية في الأسرة، التي لن تنهي في المدى المنظور زياراتها للسجون.