فخري الرطروط: لا أستريح إلا بين المُهمشين
ضيف وفا (3)
يامن نوباني
يخجله المديح، ويقول: هذا الشعر فضحنا، نعتقد أننا نخربش وإذ بنا نلعب ألعابا خطرة. أنك فلسطيني يكون عذابك مضاعفا، أنا بسيط وأمي بسيطة، عشنا سنوات طويلة في غرفة واحدة، لا أرتاح إلا بين المهمشين.
الشاعر فخري الرطروط، من مواليد مدينة الزرقاء في الأردن في العام 1972، فلسطيني الأصل، جذوره من قرية عقربا جنوب شرق نابلس، العالم لديه هو التفاصيل، يطعم البط، ويرسم لوحات يسميها: كائنات فخري، يطلق على بقايا أسلاك وقطع الكهرباء والأثاث المهمل وسقوف الصفيح، وأقفال بيوت مهترئة، والأجهزة الكهربائية المستعملة الملقاة على الأرصفة لبيعها، كائنات معذبة. يصور العجائز على البرندات القديمة، الأسواق، الناس بتفاصيلهم البسيطة، كتابات الجدران والمركبات، المشردين في الشوارع والفقراء، الحيوانات، عربات اليد، البلاط، الدعايات على الجدران وبقايا الأشياء المعلقة.
من هو فخري الرطروط؟
لو كنت أعرف من أنا لما كتبت شعرا ولما هاجرت إلى آخر الأرض، مهما كنت عظيما ستنتهي في مترين من الأرض، وستكون محظوظا إن حظيت بشاهد قبر عليه اسمك محصورا بين رقمين، أنا خطأ العالم الوحيد، كما قال فرناندوا بيسوا، أو كأن العالم زائد عن حاجتي.
حدثنا عن المكان الأول "فلسطين"، والأمكنة التي تلته، التي عشت فيها أو زرتها وعلقت فيك كإنسان وكشاعر.
أنا من حملة بطاقة الجسور الصفراء، كنت محظوظا بأنني أستطيع الذهاب إلى قريتي عقربا في فلسطين، زياراتنا المتواصلة شكّلت صورتي عن الوطن اكتشفت أن لي وطنا غير الأردن، كان والدي مدرّسا وكنا عائلة كبيرة فقيرة، كانت التصاريح مرتفعة الثمن وكانت إجبارية كل خمس سنوات، كان والدي يستدين كي لا نفقد المواطنة، المبلغ كان مهولا في تلك الفترة، أيام كان السفر عن طريق الجسر قطعة من العذاب. أول صورة انطبعت في ذاكرتي رؤية حشرة سراج الليل بين حجار السناسل، لم يكن في بلدتي كهرباء ولا ماء، خالي يحملني على كتفه ليلا بين بيوت أجدادي. فلسطين تعني لي الصبر والتين وزيت الزيتون الذي كان يتاجر به جدي ويحضره للأردن، حتى ان نأكل من زيتون فلسطين ونقول: زيتون فلسطين مختلف، لا شبيه له على الإطلاق، قبل هجرتي إلى نيكاراغوا في عام 2000 زرعت أنا وخالي المرحوم غسان سبعين شجرة زيتون، في زيارتي الأخيرة رأيتها أشجارا كبيرة مثمرة تتحدى أغصانها المستعمرات القريبة منها، هذا هو الوطن، أن تكثر من زراعة شجرة يكرهها الاحتلال.
أذكر الجسر، المئات ينامون على الأرض وسط الذباب والحر والخدمات الرديئة، فيما أكياس اللوز اليابس المبقورة فوق الباصات التي لا تزال عالقة على الجسر منذ خمس وثلاثين سنة، مشهد سوريالي لو رآه سلفادور دالي أرتخى شاربه المدبب من قسوة المشهد.
ماذا يحمل الفلسطيني من فلسطين؟ لوز، سماق، زعتر، ميرمية، زيت، زيتون، خبز طابون، ويترك قلبه وروحه. فلسطين تعني لي طابون جدتي المشتعل وفخرها بأنه لا ينطفئ وبأن رغيفها هو الأكبر، لو أن روائيا كان يندس بين النسوة صباحا ويستمع لقصص الطوابين لخرج بروايات عظيمة، تحزنني القصص التي ماتت بموت أصحابها، كما تحزنني قصص المهاجرين الفلسطينيين الأوائل التي لا تجد من يهتم بها. أذكر: بغل جد أمي –حمد- الذي حطم اليهود رأسه لوشاية كاذبة من جاره العميل الحسود، تركوه بعين واحدة وبلا حاسة شم ولا سمع. جدي حمد يركب بغله الهادئ الأعرج المصاب بطلقة إسرائيلية أيام كان يستخدمه لتهريب التبغ والطعام من الأردن إلى فلسطين، هذا البغل كان يعرف الإسرائليين ويشتم رائحتهم ولون ثيابهم حين كان ينقلب إلى وحش ويلقي بمن على ظهره، نعرف أن هناك في المكان جنود إسرائيليون، جدي حمد المحطم الرأس فوق بغله الأعرج هي أول صورة بغيضة عن أسوأ احتلال في هذا العالم.
فلسطين تعني لي الجسر، هناك مات الوطن وبقيت جثته عالقة. أذكر سخرية الجندي الاسرائيلي وهو يعد أولاد قريب لنا صاحب عائلة كبيرة، هل أنت حمار؟ ما في مخ؟ ماذا تريد بكل هؤلاء الاطفال؟ اكتفى قريبنا بابتسامة صفراء سموها فيما بعد بالقنبلة الديموغرافية.
"الجسر بفرجها الله يا خواجا" عبارة مشهورة في قريتي لشخص أراد الذهاب إلى الاردن للعلاج ولرؤية أولاده، منعه الاسرائيليون وأعادوه مرارا عن الجسر، ابتزوه ليعمل معهم كمخبر، أجابهم "بفرجها الله يا خواجا"، ظن الضابط أنها إشارة موافقة، في العودة انتظره ضابط المخابرات، سأله عن الاوضاع في الاردن ومشاهداته وهل هناك بوادر حرب؟ أجابه الرجل: من المفرق إلى الجسر طابور طويل، رأيت الدبابة في مؤخرة الدبابة.
الجسر وأنت في الباص تقطع نهر الاردن أو الشريعة تسمع طقطقة، لا ليس صوت الحديد، إنه صوت مفاصل أرواحنا التي بدأت الحياة تدب فيها، كتب العالم تعجز عن وصف لحظات القداسة أثناء عبورك نهر الاردن، تشعر بأنك دخلت صفحات أحد الكتب المقدسة.
الجسر مشاعر ننقلها من جيل إلى آخر، أطفالي أمهم فلسطينية من الاردن، لا يسمح لها بدخول فلسطين، أركض بهم من آخر العالم إلى فلسطين لاسجلهم في هويتي قبل أن يبلغوا الخامسة، تبقى أمهم على الجسر تودع الاطفال الباكين، كيف سيفهم الطفل هذا المشهد الرهيب؟ اللاتينيون يندهشون حين يعرفون ذلك، لا أحد يصدق بأن هناك ملايين الفلسطينيين ولدوا وكبروا ورأوا فلسطين فقط من خلف الاسلاك الشائكة، حين حدثت ابنة الشاعر رفائيل ألبترتي بذلك تنهدت وقالت: أنا أيضا مررت بذلك، عاش والدي منفيا من إسبانيا وكنت أراها من خلف الحدود فقط، أفهمك تماما.
أنا من قرية عريقة، فيها زيتون رومي، فيها بركة رومانية وسراديب قديمة وآثار رومانية مقابل بيت جدي وجد جارنا وهو يحفر لبناء بيته قبرين لملك وملكة رومانيين، عثروا على عقد ثمين سرقه الاسرائيليون ويعرضونه في متحف في القدس، تركوا القبرين الصخريين، كنا نلعب ونقفز فوقهما.
أراضي قريتي تمتد حتى غور الاردن، فيها سبع حمايل منذ كنت صغيرا وهم يرددون: عقربا أم السبع حمايل، لدرجة أن امرأة من عقربا كانت تزور ابنها في الكويت حين سقطت الضفة الغربية، قالوا لها راحت فلسطين، احتل اليهود نابلس وجنين والقدس.. لم تتأثر. قالت وعقربا؟ قالوا لها بغضب سقطت أيضا بدأت تنوح وتصرخ: عقربا أم السبع حمايل احتلها اليهود! وذهبت كلماتها.
جد أمي الاخر، الحاج نصر الله، الواصل إلى هذه القارة قبل 100 سنة أحب فتاة كوبية اسمها نيليا، حين عاد لفلسطين أهدته مخدة مطرزة ليتذكرها كلما وضع رأسه عليها، تزوج من فلسطين وأنجب جدتي وأسماها نيليا، قالت لي جدتي -التي لا تعرف شيئا عن مخدة غسان كنفاني في عائد إلى حيفا- بأنها رأت والدها الحاج نصرالله يبكي في حياته مرة واحدة، حين اقتحم الجيش الاسرائيلي بيتهم ودمروا أثاثه ومن ضمنها المخدة، لقد مزقوها بسكاكينهم.
قلت مرة: غُص في التراب ولا تكن ثمرة مغرورة، ماذا أنجز فخري من الشعر؟ وماذا ننتظر منه؟
أنجزت ديوانين أعدمتهما وألقيت جثتيهما في الادراج. البدايات دائما سيئة، يسيطر علي شعور بأن كل ما أكتبه رديء، أموت رعبا قبل صعود منصة وأرتبك وأكسر الدنيا، أحس الشعر حالة حميمية بين القارئ والنص، أعود بعد فترة لما كتبته وأقول لنفسي: ما هذا الهراء، أنا لم أنجز شيئا من الشعر، ضربات خفيفة هنا وهناك، لكل شاعر قصيدة واحدة، كما يقول صديقي الشهاوي، أن يموت الشاعر وتبقى له قصيدة واحدة تعيش مئات السنين فهو خالد.
أسرق الشعر سرقة، لضيق وقتي، أكتب في سوق مكتظ بالناس، أكتب في شاحنة نقل القماش، أكتب بين أطفالي، أكتب في أي مكان وفي أي ظرف، لقد طوعت نفسي، حلمي أن أجد الوقت الكافي للقراءة والكتابة، أحضر معي كتبا وترافقني من قارة إلى قارة، متخليا عن حمل الزعتر والزيتون والسماق، أقرأ كمن يسرق، وأكتب كمن يرتكب جريمة.
أنجزت ثلاثة دواوين: جنة المرتزقة الصادر عن دار نشر مغمورة في القاهرة اسمها دار رؤية، وأعتبره كأنه لم يصدر، ولولا جهود صديقي أحمد في توزيع الكتاب لما عرفه أحد، الديوان الثاني صنع في الجحيم صدر عن دار الغاوون بعد سنوات من الشد والمطالبة، صدر منه نسخ قليلة وبطباعة رديئة، الدار لم تشارك به في أي مكان، نوع من التجارة والنهب، توصلت إلى قناعة بأنها دور نشل.
الديوان الثالث 400 فيل أزرق، صدر عن دار الادهم في القاهرة رغما عني وعن طريق أحمد الشهاوي، أعتبره بدايتي الحقيقية، فقد صدر بنسخة جميلة ونعمل على إصدار نسخة ثانية، من هنا أوجه التحية لصاحب هذه الدار الشاعر فارس خضر، لانه لم يخذلني. مشكلتي أني لا أعرف تسويق نفسي، وليس لدي مافيا أو حزب أنتمي إليه، عندي مواد تكفي لطباعة العديد من الدواوين، لكني أشعر بالهزيمة والملل، حتى" الفيس بوك" ما أنشره يسرق بسهولة، حاليا ممتنع عن نشر أي شيء جديد، أنشر أحيانا في صحف ومجلات مختلفة.
يسيطر علي شعور من العبثية واللا جدوى، وبهزيمة الشعر، فجأة أنتفض وأقول: لا الشعر مهم وقادر على تغيير العالم، يقولون إن الله أول ما خلق، خلق القلم واللوح المحفوظ، صدر لي في كوستاريكا ديوان جنة المرتزقة بالاسبانية، ترجمة الدكتور المصري عمرو سعيد، وصدر لي ديوان آخر في الاكوادور، صدرت لي في المكسيك مختارات في أنطولوجيا للشعر العربي رفقة الشاعر خزعل الماجدي ونجوان درويش ونوري الجراح، اختيار وترجمة غدير أبو سنينة، ترجم لي مختارات إلى الايطالية والرومانية.
كتب مرة: الشعر طريقتنا الخاصة والوحيدة، للثأر من هذا العالم، هل أنت راضٍ عن الشعر؟ يوصل ما تريد ايصاله؟
من أنا لارضى عن الشعر، المهم أن يرضى عني، أنا أتهجى الحرف وترهبني العتبات، الشعر كالنار يلتهم كل شيء ولا يشبع، الشعر يستغرق أكثر من حياة وأكثر من المشكلة أن الشعر يحتاج كل طاقتك، طاقتك التي تبددها على يوميات تافهة، يسرقك من نفسك ومن العائلة ومن العمل ومن الحياة ذاتها، الشعر دمر حياتي، أنا أسير مؤبد، الشاعر رجل سقط من سقالة من السماء الثامنة. الشعر طاقة تأملية رهيبة، وحتى تدخل في مرحلة الالهام ستمضي وقتا طويلا في التسكع الفراغ، لان الشعر فراغ يتسع لكل شيء- نحن كائنات لغوية، بلا لغة لا نساوي شيئا كل الموجودات على الارض، كائنات لغوية، وحده الشعر يفك شيفرتها، فقط الشاعر يستطيع سماع حوار بين نملتين في ثقب معتم في ليلة شتاء باردة، سيلازمك شعور دائم بأن كل ما تكتبه تافه، تظل هناك قصيدة لن نستطيع قولها، قصيدة في رأس الشاعر، هي القصيدة الام وما يخرج من قصائد مكتوبة هي ظلال مشوهة للقصيدة الاصل، لذلك يقولون المعنى في بطن الشاعر.
الشعر نص مقدس يمنح القارئ ما يريد من شحنات، هذا يعتمد على حاجة القارئ وقوة محرك الشاعر، بعض الشعراء يشبهون السلاحف، وبعضهم طائرات نفاثة. يطالبونك بأن تكتب أشياء سعيدة تبث الامل. للأسف نحن على هذه الارض، ولا شفاء لذلك كما يقول صموئيل بيكت. الشعر يشبه حزورة الراعي على ضفة نهر معه ذئب وخروف وكيس علف، هناك قارب صغير يتسع للراعي وغرض واحد، ماذا يأخذ وماذا يترك؟
بعد عناء وتمزيق أكثر من ديوان ستكتشف أن الراعي يأخذ في المرة الاولى الخروف ويضعه على الضفة الاخرى ويعود ليأخذ الذئب، ويضعه على الضفة الاخرى ويعيد الخروف للضفة الاولى ويأخذ كيس العلف، يتركه عند الذئب ويعود لاخذ الخروف بمعنى أن الخروف يسافر مرتين، لانه الاضعف. ثمة كلمات لا تخرج حتى لو سحبتها بملقط كلمات تولد وتموت داخلنا، الشعر يفقد ثلث قوته مجرد خروجه من فم الشاعر، الشعر بحر لا ينضب، الشعر خزنة لا تفتح إلا إذا استخدمت الارقام الصحيحة كما قال أحدهم.
إلى أي قدر كانت الغربة حاضرة في شعرك؟
يقول ألبير كامو: "غريبا عن نفسي وعن العالم، سلاحي الأوحد ليس إلا فكرا ينفي نفسه متى ما أقر بحقيقته". لذا حين يضيع وطنك، تصبح كل البلاد سواء، الاردن مسقط رأسي وبلدي الاول، نيكاراغوا منحتني جنسيتها، مجرد أن تولد كفلسطيني فأنت في غربة، تغادر فلسطين فأنت في غربة ثانية، تبدأ بكتابة الشعر فأنت في غربة ثالثة، تعتاد الامر على كونك غريبا في هذا العالم، وتقول لنفسك طوبى للغرباء.
في داخل كل فلسطيني شاعر صغير، لان الطريق إلى البيت أجمل من البيت، لان فلسطين فيها رومانسية لا توجد في مكان آخر، يصرون على صبغ موت الفلسطيني بلون رومانسي، مع أنه يموت بقسوة، كأننا ولدنا على الطريق ونموت على الطريق، حين ألتقي بشعراء لاتينيين من أصل فلسطيني وأرى في عيونهم الاسى والحنين، لا هم يستطيعون العودة إلى هناك ولا هم قادرون على النسيان، أشعر بسفالة هذا العالم. ما يخففه لقائي بشعراء لاتينيين الاصل رأوا الموت الاسود أيام حكم الديكتاتوريات العسكرية في أميركا اللاتينية، بيننا أشياء مشتركة، في الثورة الكوبية سقط فلسطينيون، في ثورة الجبهة اليسارية الساندينية في نيكاراغوا سقط فلسطينيون.
في زيارتي الى السلفادور للمشاركة في مهرجان للشعر أخذونا في زيارة لمقبرة العظماء، على بابها نصب كبير لشفيق حنظل الفلسطيني الذي قاد الجبهة اليسارية ضد حكم العسكر واليمين في السلفادور في حرب طويلة طاحنة، هذا الرجل سارت في جنازته كل السلفادور، فيما كان يقبع أنطون سقا في قصره كحاكم للسلفادور ممثلا عن اليمين والعسكر، شيء يثير الاعجاب والقهر والسخرية معا. شعرت بأن ما يمكن فعله للفلسطيني بجانب هذا النصب لم أشعر باليأس، حسنا ما دمنا لا نملك وطنا فكل مكان يصلح ليكون وطنا لنا. لا توجد مقبرة في العالم لا يوجد فيها قبر لفلسطيني، هذه فكرة حمقاء تثير الرعب.
أيام وصولي لنيكاراغوا صادف عيد الاموات، ذهبت للمقبرة الكبيرة في مدينة شننديغا، رأيت فيها قبرين مهملين مسيجين متسخين بلا طلاء ولا أسماء وسط العشب المتوحش، تزورهما فقط الريح والطيور، من هؤلاء؟ أجابني خالي: أحدهم قريب لنا جاء من كولومبيا إلى نيكاراغوا على بغل، لم يحتمل الرحلة، مات فور وصوله إلى هنا، والاخر فلسطيني قتل قبل سنوات طويلة في عراك في صالة للرقص، لا أحد يعرف اسمه.
في التسعينيات مات قريب لنا هنا، ونقلوا جثمانه إلى الاردن في طائرة، بكلفة 7 آلاف دولار، مع أنهم في المشرحة أخرجوا كل ما في داخله، عائلته رفضت أن يدفن هنا، على الاقل هناك يستطيعون قراءة الفاتحة على قبره، أما إن كنت فقيرا وبلا عائلة ستدفن هنا كيفما اتفق، لذلك اتفقت الجالية على شراء جزء من مقبرة مناغوا لتجميع الاموات العرب فيها، وأغلبهم فلسطينيون. حين مات الشاب الفلسطيني جمال درس، كان في المشرحة وزوجته من غواتيمالا كانت على باب المشرحة تحتضن فردة حذائه وتبكي وشيخ المسجد المصري يرتجف: إنها المرة الاولى التي سأغسل فيها ميتا. حين يقترب أجل أحد العرب ولو كان فقيرا، تجمع له الجالية ثمن الرحلة ليعود ويموت بين أهله.
الغربة تربي فيك الحقد على الحدود والموت وأشياء أخرى، تمزق الهوية بين هنا وهناك، وأن يكون لك أطفال يكبرون هنا بعيدا عن جذورهم، ولبعد المسافة وارتفاع تكلفة السفر يزورون أوطانهم كل خمس سنوات مرة، وفي ظل انعدام المدارس العربية هنا، وأن تباغتك فكرة أن تموت هنا فجأة، ماذا سيحل بأولادك؟ أرى أمامي العشرات من اللاتينيين من أصول عربية، من الجيل الثاني والثالث، ذابوا هنا، ولن تعرف أنه عربي إلا من ملامحه واسم عائلته المحرف، ماركس هو مرقص، ميغيل هو مثقال، خورخي هو خليل، داد هو حداد، ولان الانسان كائن لغوي، ماذا يتبقى منه بعد ضياع لغته؟
هنا عائلة مشهورة من أصل فلسطيني، أحدهم كان رئيس بلدية مناغوا في السابق واسمه موسى حسان، وبقية إخوته أشهر أطباء هنا، تدخل عيادة الدكتور فؤاد حسان للأطفال، لا يتكلم العربية، على الحائط آيات قرآن، على الطاولة تماثيل للعذراء، يستقبلك ويعالج ابنك مجانا ويمضي معك وقتا طويلا، رغم الطابور الطويل الذي يمتد في الخارج، وتكون لك أولوية الدخول، قبل أن يموت والده أوصاهم بأن يعالجوا أي عربي مجانا، وهم ينفذون وصيته، ورغم إلحاحك على أن تدفع، يقول لك: حسنا، أحضر لي علبة حلاوة من فلسطين، كان أبي يحبها ونحن كذلك.
مرة كانت حالة ابني سيئة، اتصلت به في يوم عطلة في نيكاراغوا، قطع إجازته وجاء للعيادة وحيدا من مكان بعيد، عالج طفلي ولم يأخذ سنتا واحدا، والابتسامة على وجهه. "علي" فلسطيني قدم إلى هنا منذ وقت طويل، عمل كبائع جوال في الارياف والغابات، يضع في شنطته كل شيء، وأينما هبط عليه الليل، طرق باب بيت ودخل ليعرض بضائع مجانية مقابل السماح له بالمبيت، علي توفي قبل سنوات، يعرف أن له 63 ولدا، والبقية لا يعرف عددهم. يبدو الشباب العربي في أميركا اللاتينية أكثر وعيا، يتزوجون من هنا ويقيمون علاقات، المهم أنهم لا ينجبون من هذه العلاقات أولادا.
كيف تنظر أميركا اللاتينية لشعراء فلسطين والقضية الفلسطينية؟
تأتيني دعوات كثيرة من أصدقاء كثر عرفتهم هنا بحكم عيشي سنوات طويلة، لكن الوقت والعمل لا يسمحان لي. يعتبرونني واحدا منهم. تفاجأت قبل سنوات بدعوة إلى مهرجان الشعر الذي تقيمه بلدية العاصمة في السلفادور، وتفاجأت بأن أحد أعضاء المجلس البلدي فلسطيني الاصل واسمه نيقولا معمر هو من أصر على دعوة شاعر فلسطيني إلى المهرجان، رغم أنه من حزب اليمين، قال لي: يعتقدون أنك كفلسطيني يجب أن تكون مع اليسار، وهذا خطأ، يجب أن نغير طريقة تفكيرنا. في مهرجان كوستاريكا للشعر العالمي، لم يشارك أي شاعر إسرائيلي حتى الان، أخذنا وعدا من منظمي المهرجان الشاعر نوربرتو ساليناس والشاعر رودلفو دادا حداد بأنهما لن يوجها دعوة لشاعر إسرائيلي، وللتاريخ فإن الشاعر الشهاوي صاحب هذا الفضل، بإمكاننا عمل الكثير. في الوطن العربي نهمل أدباء أميركا اللاتينية ونفضل دعوة الشاعر الاوروبي والاميركي، إنها عقدة الرجل الابيض سوبرمان. هذه صرخة عتاب وغضب، هنا الكثير من الشعراء والكتاب يقدسون فلسطين، يجب أن نشعرهم بأننا نفكر فيهم.
فلسطين ليست على الخارطة وإلياس يبكي
كانت أمي تستمع لبرنامج رسائل شوق، الذي يبث على راديو الاردن، كنت أستمع معها، كان الرابط الوحيد بين الفلسطينيين على الضفتين، في هذا البرنامج كان هناك الكثير من القصائد المختبئة بين السطور، بدأت أعرف أن وطني محتل ولا يظهر على الخريطة.
طفلي إلياس في الصف الاول كان يدرس في مدرسة فيها من كل الجنسيات، كان في حصة الجغرافيا، رسمت المعلمة خريطة العالم، وعلى اليمين أسماء الطلاب وأعلام بلدانهم، كل طفل يصل بخط بين اسمه وعلمه وبلده، في صف إلياس طفل إسرائيلي وصل بين اسمه وبين ما يسمى بإسرائيل جاء دور إلياس، قالوا له:لا وجود لبلدك على الخريطة عاد حزينا، كيف أقنع طفلا عمره 6 سنوات بأن بلده موجود، كيف أكذب الخريطة، ذهبنا للمدرسة كنت على استعداد لتحطيمها. اعتذرت المديرة السويدية وقالت لنا: عمري 60 سنة وحقا لا أعرف ماذا يحدث هناك، حدثني عن فلسطين.
قلت لها إن فتحت الكتاب المقدس ستجدين خريطة في الصفحة الثانية مكتوب عليها فلسطين، ثم زارتني المديرة في البيت واعتذرت لالياس، وخصصت يوما كاملا في المدرسة للتعريف بفلسطين، شاركت فيه السفارة الفلسطينية بقوة.
كيف كانت طفولتك؟
إنها الفترة الوحيدة الحقيقية التي عشتها، ثم بدأت تظهر الثقوب في روحي ويتسرب منها وإليها الفراغ. في طفولتي بعت كل شيء، ملاقط غسيل، ليف، ذرة مسلوقة، علكة، حلوى، وبالونات، كنت أشتري سحبة البالونات وأذهب للبيت وأقلب على ضوء شمعة كرتونة الارقام للعثور على رقم عشرة وإزالته، فهو البالون الاكبر، وإن خرج لاحدهم لا أحد سيغامر بالشراء. مرة اشتريت سحبة بالونات جديدة وفي طريق عودتي للبيت استوقفني أحدهم واشترى بالونا، سحب الرقم وإذ به بربح الرقم عشرة، انهار عالمي لحظتها.
في قريتي كنت استمع للقصص الفدائية والشتات والفلاحين ومواسمهم، شاركت جدي في مواسم حصد القمح وتحميل القمح على حمار، الدراس وتنقية الحبوب في الغربال، شاركت في جلسات جماعية لفرط الملوخية وما تخللها من قصص، كانت تفتنني قلائد البامياء المجففة على الجدران، والبندورة المجففة على السطوح، وحبال الثوم، الزيتون المكدس في الخوابي، كنت أشعر أننا بخير ومستعدون للعالم بشكل جيد. رؤية القبور في قريتي في أحواش البيوت كانت ترعبني، كأنهم لا يعترفون بالموت، وعلى الميت أيضا أن يقيم معهم.
حياته ليست مثالية تماما، لديه عائلة وعمل وهموم يومية، يرى ما يصوره بأنه اقتناص لحظات للحياة، يؤمن أن كل شيء يمكن تحويله إلى شعر، يلتقط صورة لعجوز في الشارع يقيس أوزان الناس والأشياء على ميزان قديم، ويقول: كيف تقضي الحياة في قياس أشياء لا تمتلكها؟ هذا العالم مؤلم.
يلتقط صورة لقطعة بطاطا سقطت أسفل الطاولة، فاجتمع عليها النمل، ويقول: لا شيء عبثي، لا شيء بلا معنى في هذا العالم، هناك عوالم موازية لعالمنا البشري لا تقل حركة وعمقا عن عالمنا البشري، بل ربما تتفوق على عالمنا، الله أفرد للنمل سورة كاملة في كتابه، هذه الكائنات لا تزال قادرة على إدهاشنا، النملة صديقتي في هذا العالم.
لا تفوته الأشياء التي تحدث أمامه، يرى عيد ميلاد لطفل أمام دكان لبيع الأقمشة، ويقول: أعياد الميلاد هنا مقدسة، يحتفل بها الجميع ويدفع الفقراء مبلغا باهظا لجلب فرقة موسيقية تغني له في عيد ميلاده، وعادة ما تكون الفرقة عبارة عن عائلة.
ماذا رأى فخري في مناغوا؟ أقصد نمط الحياة والبشر
بل قل ما الذي لم أره هنا؟ في بلد خرجت من زلزال مدمر وحرب أهلية طاحنة أكلت الاخضر واليابس، وتعد من أفقر دول أميركا الوسطى. رأيت هنا البساطة والقناعة والكرامة هذه شعوب لم تختلط دماؤها بأعراق أخرى، ظلت على الفطرة والبساطة والايمان بالغيبيات والسحر، استغلت الكنيسة الانجيلية المدعومة من إسرائيل هذه النقطة وبدأت بالانتشار كالسرطان، خلال سنوات بسيطة ستخسر الكنيسة الكاثوليكية -المحسوبة نوعا ما لصالحنا- لصالح هذه الكنيسة التي تسيطر على عقول العامة وتعمل على إضفاء الرومانسية والنقاء على شعب الله المختار وأرضه الموعودة، هذه الكنيسة التي تنادي بالعودة للأصول، والاصول عندهم هي إسرائيل، عند وصولي إلى نيكاراغوا قبل 16 عاما كانت هذه الكنيسة في البدايات، الان أعلام إسرائيل ونجمة داوود تملأ شوارع نيكاراغوا، يجري هذا بينما نحن نيام، إن لم ننتبه سنخسر هذا التعاطف الموجود في القارة اللاتينية مع قضيتنا.
في مناغوا تختلط الطبيعة والبشر والبيوت في خلطة غريبة، بيوت من الصفيح تعذبها شمس حارقة ومطر متوحش، لا عمارات هنا، الطبيعة عشوائية بعيدة عن تغول البشر، يبعد بيتي قليلا عن أكبر بحيرة في أميركا الوسطى، هذه البحيرة محاطة بثلاثة براكين، تنتج الزلازل والكثير من الرعب، أحد هذه البراكين استيقظ قبل شهر بعد أن نام لمدة 150 سنة، نعيش في هوس زلازل يقولون إنها تدمر مناغوا كل أربعين سنة، وآخر زلزال دمرها كان في العام 1972.
البشر هنا لا يهتمون بالمستقبل، الابد يعني لهم اللحظة التي يعيشون فيها، يثقون بالخالق بطريقة طفولية، يحبون الرقص والموسيقى، يعتبرونها الغذاء الروحي، حتى في الكنائس تكثر الموسيقى والرقص، لكل مدينة قديس، وقد تتفاجأ بأن هذا القديس هندي أحمر مات قبل وصول الاسبان، خليط من الوثنية والمسيحية، تكثر تماثيل النمور والنسور والوحوش بجانب تماثيل المسيح في الكنائس المقامة في الارياف، كأن هذه الارض ملت من المذابح فبحثت عن وسيلة للمصالحة.
يكثر الباعة الجوالون، ولشدة الفقر يبيعون أي شيء، بيض سلاحف بحرية، ببغاوات، كلاب صغيرة، ماء جوز الهند، حتى ماء الشرب يباع في أكياس صغيرة، الدواء يباع على البسطات كأنها صيدليات متنقلة، حتى "الأسكيمو" عبارة عن لوح ثلج يتم قشطه وإضافة عسل أو مربى، كل هذا تجده تحت إشارة ضوئية بجانب المهرجين والمتسولين.
حين تثور البراكين وتهتز الارض، يخرجون تماثيل القديسين من الخزائن ويذهبون للبركان ويصلون كي يهدأ، رغم كل هذا الفقر والفساد إلا أن هناك ديمقراطية نحتاج في الوطن العربي لعشرات السنين للوصول إليها، يرسمون دانييل أورتيغا رئيس نيكاراغوا على شكل قرد أو خنزير في صفحات الجرائد ولا أحد يغضب، تطل زوجة الرئيس من شرفة وترفع شارة النصر، إنها لا تحلق شعر إبطها، ويتهمونها بالسحر والشعوذة، كل البلد تتندر على ذلك، ومع ذلك لا أحد يسجن.
هنا يحترمون الغريب، وحين يعرفون أنك من بلد المسيح ينظرون إليك بشيء من الذهول وتبدأ الاسئلة حول بيت لحم وكنيسة القيامة، والقضية الفلسطينية، تركب مع سائق تكسي فيريد منك خلال خمس دقائق أن تشرح له القضية الفلسطينية.
في السفر يتفتح عقلك وتبدأ تفكر في كثير من الاشياء التي تبدو لك مسلمات، تفاجأت هنا بأن هناك موزا أحمر اللون، وحبات مانجا بحجم اللوز، رأيت احترام الانسان، مجرد إقامتك لخمس سنوات تأخذ جنسيتهم وتعتبر واحدا منهم، لي خال فلسطيني هو الان قنصل نيكاراغوا في الاردن، لا تحتاج كفيلا ولا لشيء آخر، الفلسطيني هنا يدخل نيكاراغوا من دون فيزا، تعطى له بسهولة في المطار، هنا رأيت كيف يطرد سفير إسرائيل بعد الحرب الاخيرة على غزة.
حتى الموت هنا يختلف، أوائل وصولي إلى هنا توقفت بجانبي سيارة فيها تابوت، فوق التابوت زجاجة نبيذ وورود وشابان يتمازحان، أرعبني المنظر، وصدمني أكثر رؤية محلات بيع التوابيت بكافة أشكالها وألوانها، مقابرهم نظيفة زاهية الالوان.
رأيت التسامح، هناك مسجد وحيد في مناغوا، ليلة القدر فقط يؤذن الشيخ في السماعة الخارجية، توقع أن يؤذي الجيران، بعد أيام جاء الجيران يسألون عن الصوت الجميل الذي سمعوه مطالبين الشيخ بسماعه دوما، بينما أئمتنا يصرخون في السماعات في بلادي يدعون على الجميع بأنهم أحفاد قردة وخنازير، مع أن الرسول قال: من آذى ذميا فقد آذاني.
كمية الآلام المنتشرة في الشوارع عالية جدا، لكنهم يكتمون ذلك خلف ابتسامة حقيقية، على باب دكان الاقمشة امرأة في الستينيات، تصنع حلوى منزلية وتبيعها في صينية لم تتغير منذ عشرين سنة، كل يوم تبدأ المرأة يومها بمكياج متقن يستغرق نصف ساعة، ثم تمضي اليوم بأكمله فوق بنك خشبي ساندة ظهرها إلى الجدار، صارت جزءا منه.
بيوت كثيرة لا بلاط فيها ولا إسمنت، أرضية ترابية، في الشتاء ينصبون أرجوحة وينامون فيما المياه تجري من تحتهم. شعب يهتم بالنظافة إلى حد الهوس، رغم فقرهم إلا أن بيوتهم نظيفة، لا يخرج أحدهم للعمل دون أن يكون في شنطته معجون أسنان وفرشاة.
من كتابات وحكم فخري الرطروط: الشعر لا يطعم أحدا، وإن أطعمك فلست بشاعر.
الكتابة إعلان انشقاق عن جيش العقلاء.
أن ترث كوارث عوالم قديمة، لحظة ولادتك، يعني أن الله اختارك شاعرا.
ينتهي العالم ولا ينتهي الشعر، لا بد أن يظل شاعر ليسجل الحدث في قصيدة.