في المسألة الأخلاقية
أكثر ما يتخبط به اليمين الإسرائيلي المتطرف في اللحظة الراهنة، هو المسألة الأخلاقية، بل كأنه لايعرف شيئا عن هذه المسألة، وهو لايقرب أيا من مفاهيمها وتقاليدها وسلوكها، ولهذا يرى أن استقبال الرئيس أبو مازن لعوائل الشهداء المحتجزة جثامينهم لدى سلطات الاحتلال "تلبسا بالفساد" (..!!) وتحريضا على العنف والإرهاب ورعاية له ...!! والمسألة الأخلاقية التي نتحدث عنها هي المسألة الإنسانية التي لاتخص أمة بعينها، بل هي للبشرية كلها، لهذا قال الشاعر"إنما الأمم الأخلاق ما بقيت / فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا". لن نقول إن استقبال الرئيس أبو مازن لعوائل الشهداء المحتجزة جثامينهم، هو امتثال لهذه المسألة فقط، وإنما هو أيضا اضطلاع بالمسؤولية الإنسانية قبل الوطنية هنا، وذوو الشهداء الملتاعة قلوبهم لايريدون سوى كلمة تلهمهم الصبر والسلوان، كلمة تعزيهم وتربت على اكتافهم بحنو المشاعر الطيبة الصادقة، وذوو الشهداء المعتقلة جثامينهم لدى سلطات الاحتلال، وليس المحتجزة فحسب، في سابقة هي الأولى من نوعها في العالم، ذوو هؤلاء الشهداء المعتقلين، لايريدون سوى الوداع الأخير لفلذات اكبادهم، وإكرامهم بدفنهم مثلما يليق بهم بتراب أرضهم، تراب أحبتهم، ولهذا يطرقون الأبواب كلها من أجل الإفراج عن جثامين أبنائهم، وأول الأبواب، باب الوطن بأهله ومسؤوليه لأجل العمل سوية لتحقيق هذا الهدف الإنساني البسيط، إطلاق سراح جثامين الشهداء الذين هم ضحايا الاحتلال وسياسته العنصرية البغيضة.
لن يفهم اليمين العنصري الإسرائيلي المتطرف هذه المسألة الإنسانية وهو يسعى للانتقام من ضحاياه باعتقال جثامينهم من جهة ورش الملح على جروح أحزان ذويهم من جهة أخرى، بل وتعذيبهم بمحاولة حرمانهم من إلقاء النظرة الأخيرة على وجوه أحبتهم ودفنهم بأيديهم.
ما من شعب ولا جماعة سعت وتسعى خلف انتقام من هذا النوع، وثمة قاعدة فقهية وقانونية، العالم بأسره يعمل بها، ونحن نعرفها ونعمل بها على نحو إيماني، تقول "لا تزر وازرة وزر أخرى"، وبمعنى أن الوازرة التي هي النفس، لاتحمل حمل غيرها، أيا كان هذا الحمل، ولهذا واستنادا إلى هذه القاعدة، لم تحاكم حركة التحرر الوطني الفلسطينية يوما، عائلة متعامل مع الاحتلال، حتى في أيام الاشتباك المسلح معه، ولم تفرض عليها عقابا جماعيا، ولم تقصها من محيطها الاجتماعي ولم تطاردها أبدا في لقمة العيش، هؤلاء نحن بروح المشروع الوطني وتطلعاته الإنسانية النبيلة، بسعيه ونضاله لتحقيق الحرية والعدل والحق والجمال، فأي مشروع يحمله اليمين العنصري الإسرائيلي المتطرف؟ غير مشروع القتل والعدوان والإرهاب، وهو يعتقل حتى جثامين الضحايا، ويسعى للانتقام من ذويهم على هذا النحو البشع، الذي لاسابقة له في تاريخ البشرية..!!
على المجتمع الإسرائيلي بكل قواه وفعالياته وبخاصة المؤمنون منهم بضرورة السلام والمتطلعون لتحقيقه، أن يدرك قبل فوات الأوان، أن مستقبل إسرائيل سيكون مظلما مع هذا اليمين العنصري المتطرف، بل مخيفا إذا ما عادت ثانية على نحو تراجيدي المسألة اليهودية بكل ذلك التاريخ المأساوي .
والحقيقة لسنا ننصح هنا، بقدر ما نؤمن أن معركة الحرية والتحرر، لا من الاحتلال فقط، وإنما كذلك من الأفكار العنصرية البغيضة، هي معركة كل الذين يرجون مستقبلا زاهرا بحياة العدل والنزاهة والكرامة الانسانية في ظل أمن حقيقي واستقرار مثمر.