الأدب بين الهجرة واللجوء- حنان باكير
ليس من قبيل المفاضلة. لكني كلما تأملت المشهد الثقافي العربي في الغرب، تبادر الى ذهني ظاهرة أدباء المهجر، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين. لم نشهد حتى الآن بروز أندية أو روابط ثقافية، تركت بصماتها على ثقافة الدول المضيفة، أو أنها قدمت صورة ناصعة عن ثقافتها.
كانت بعض المحاولات، لتأسيس رابطة للكتاب العرب، أو الفلسطينيين، لكنها محاولات ولدت ميتة. لن أبحث في الأسباب، لكن ما خبرته هو مهارتنا في تدمير أي اسم عربي يبرز، أو يشكل ظاهرة، في الثقافة النرويجية، بينما نرى العكس عند بعض الجاليات الاخرى!
تتشابه كثيرا الظروف الاجتماعية، التي حدت بالشعراء من لبنان وسورية وفلسطين، الى الرحيل صوب الأمريكتين الشمالية والجنوبية. وأولها الظروف الاقتصادية السيئة. ثم القمع السياسي والكبت، زمن الدولة العثمانية، وحملة التتريك التي طالت اللغة العربية. لكن يبقى الفارق الكبير، أن الهجرة في ذلك الوقت، لم تكن تضمن أي دعم للمهاجر الجديد، فعليه أن يشق طريقه بنفسه، على عكس النظام الاجتماعي السائد الآن. حيث يؤمن للاجئ، ولو الحد الأدنى، ليتفرغ للكتابة، لو اختار الاكتفاء بالمعونة الاجتماعية، وعدم العمل.. وقد حفلت أشعار المهجرين الشمالي والجنوبي، بالشعر الذي يصور أوضاعهم المادية البائسة. وكيف تبخر حلمهم بالوصول، الى مغاور الزمرد والذهب في اميركا. يقول احد الشعراء:
قطعت البحار، وجبت القفار/ وحاولت جوب الفضاء النقي
خلقت شقيا وعشت شقيا / واحسب اني اموت شقي..
ثم الكدح في ملاحقة لقمة العيش بحدها الأدنى.." فنشرب مما تشرب الخيل تارة / وطورا تعوف الخيل ما نحن نشرب".
ناهيك عن اضطرارهم لمعاشرة أناس لا رغبة في صحبتهم:
وأنصت مضطرا الى كل أبله / كأني بأسرار البلاهة معجب.
ورغم تلك الظروف القاسية، في بلد ينطبق عليهم فيه قول المتنبي "غريب الوجه واليد واللسان"، فقد نجح الجيل الأول من الكتاب المهاجرين، في تأسيس الرابطة القلمية، في أميركا الشمالية، وضمت القامات الشامخة من الشعراء، وعلى سبيل المثال جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، وقد رئس الشاعر ايليا ابو ماضي، رئاسة تحرير "المجلة العربية" التي كان يصدرها الشباب الفلسطيني عام 1920.. وأما في اميركا الجنوبية فقد تأسست، العصبة الاندلسية. ومن امثلة شعرائها، ميشيل معلوف، الياس فرحات، وداود شكور.
لم يتوقف دور الشعراء المهاجرين، على التجمع في هيئات فقط، بل شكلت الرابطة القلمية، ظاهرة لغوية، حررت اللغة الشعرية، فجددت وطورت الكثير من موضوعاتها ايضا، فانتهج أصحابها، منهجا إنسانيا تأمليا، دون أن ينسيهم هموم وطنهم الكبير.
بينما اتجه شعراء العصبة، او اميركا الجنوبية، الى الشعر القومي والانغماس اكثر في هموم الوطن السوري الكبير. وبرز العديد من الشعراء والصحفيين، ولا بد من ذكر الطبيب خليل سعادة، والد مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، والذي كان من اوائل الذين نبهوا الى مخاطر المشروع الصهيوني في فلسطين. وتبقى الاشارة، الى وجود ظاهرة فلسطين، وبقوة في الأدب المهجري. حيث حفلت أشعارهم، بالتنديد بالمشروع الصهيوني، وحق الفلسطينيين في وطنهم، واستنهاض الأمة للوعي بالخطر الداهم!
لا نشكك في وجود العديد من الاقلام الجيدة، في هذه المنافي البعيدة. ولكنها بلا صوت وبلا انجاز واضح، يترك أثره على لغتنا او ثقافتنا، رغم ما توفره الدول المضيفة، من تأمين الحاجيات الضرورية، لمعيشة تبقى افضل من معيشة الكاتب في بلاده!