"عساف طاهر الصباح" شاعر منسي من الزمن الجميل
يامن نوباني
لم يذكره المؤرخون لتلك الحقبة من فلسطين الفنية والإذاعية، ولا أصدقاء المهنة وقدامى المذيعين في مذكراتهم ومقابلاتهم.
"يا أبو عبد الفتاح"، الأغنية المشهورة التي ردّد كلماتها عساف طاهر الصباح البرقيني في بلدته برقين بمحافظة جنين، ثم كتبها، وغنتها المطربة سميرة توفيق في ستينيات القرن الماضي، كما روت عائلته لـ"وفا"، والباحث في الفن الشعبي الفلسطيني حسين عطاري.
ويقول أهالي برقين ومنهم ابنه نبيل وحفيده عساف نبيل، إنهم سمعوا القصة من الحاج طاهر الشايب، الذي كان يجلس ومجموعة من الأصدقاء في مقهى مقابل بيت والد الأستاذ عبد الفتاح مقابل دار علي قاش، وكان موسم العنب، وكانت حاكورة مملوءة بالعنب والتين، ومن الموجودين أحمد الحسن صاحب البيت، فما كان من عساف إلا أن بدأ يردد: يابو عبد الفتاح طاح العنب طاح.
وقال الباحث عطاري إنه سمع شخصيًا من عساف قصة أغنية يا أبو عبد الفتاح. سألته حين التقينا في بداية الستينيات في عمان، إن كانت لديه طقوس للكتابة وخاصة طقس أغنية يا أبو عبد الفتاح، فقال لي: كانت في لحظتها، كنت قاعدا في أحد البيوت مع الندى، وللبيت جيران عندهم أكثر من دالية، فقامت المرأة تنادي على زوجها "هي يا أبو عبد الفتاح، هي يا أبو عبد الفتاح، هيّ العنب منقّد (بدأ ينضج)، شو رأيك تيجي تلقطلك قطف قطفين. فطلعت معي: "يا أبو عبد الفتاح طاح العنب طاح نادي عَ الناطور يعطينا المفتاح".
الشاعر الشعبي عمل ككاتب ومغنٍ في إذاعة الشرق الأدنى في جنين في بداية الأربعينيات، وانتقل معها الى يافا، قبل أن تحط به الرحال في الإذاعة الأردنية في العام 1959 وحتى وفاته في العام 1965.
عساف من المنسيين في زمن يافا الجميل، الثلاثينيات والأربعينيات، يافا عمالقة الفن: محمد عبد الوهاب، وأم كلثوم، وفيروز، واسمهان، وفريد الأطرش، وسهام رفقي، وحليم الرومي، والملحنون الفلسطينيون روحي خماش ومحمد غازي ورياض البندك، وغيرهم العشرات من المطربين والملحنين والمفكرين، حين كانت يافا موطنًا للثقافة والفنون لكل العرب.
ولد عساف طاهر في العام 1918 في بلدة برقين، في محافظة جنين، لعائلة تعمل في الزراعة، فارتبط منذ الطفولة بالأرض، فكتب لها وكتب قصائد الغزل، كما أنه كان يحيي الحفلات الشعبية والمناسبات الاجتماعية والوطنية.
ويقول ابن الشاعر، نبيل عساف: لوالدي أكثر من 600 نص ما بين قصائد وأبيات شعرية وأغان شعبية، تردد بعضها بأصوات مطربين كبار وأخرى رددها مغنون شعبيون، ومن كلماته أغنية: سافر ما قلّي، يما عزيز الروح سافر ما قلي. غناها على الهواء مباشرة مع نجاح سلام، كما غنى كلماته عبده موسى، وغنت له سلوى "لأكتبلك بالقلم وأبعثلك النغم بستنى جوابك يا لا يا نعم"، وغنى له سامي الشايب، وغنت له دلال الشمالي أغنية "يا مأمور اللي في المطار"، وغنت له طروب "يختي خطبوني"، وغنى له محمد وهيب وفهد نجار.
وأضاف: عمل والدي في بداية الستينيات في الإذاعة الأردنية، وكان يبعث أغانيه المكتوبة عبر البريد، ما أدى إلى ضياع جزء مهم من كتاباته وإرثه الغنائي. كتب الأغنية الشعبية والتراثية، والشعر الوطني والسياسي والغزلي والاجتماعي وحتى في الشأن الاقتصادي، كان مثقفا وملما بقضايا الناس، ومن أساتذته كان الريماوي، وإبراهيم الحطيني، والحاج أحمد سليمان "أبو ربيع" من قرية كفر دان. كان يلف على القرى والختيارية الكبار ويكتب ما سمعه الناس من أشعار عساف، لكنه توفي قبل أن ينهي مهمته...
يتابع نبيل: ومن أقوال الشاعر عساف التي كتبها وغناها بنفسه عبر مايكروفون إذاعة الشرق الأدنى: "بدي أعملك سهريه آه لو تعرف شو هي انت بتقولي باجي امشي ع عكازة رمش عيني، بدي اعملك سهرية ع كنافة نابلسية".
وقال لطه حسين في إحدى زياراته لإذاعة يافا: وحياتك يا طه حسين الله أعطاني عينين ثنتين، خذلك عين وخلي عين. وكتب في قهوة أبو حسن في خمسينيات القرن الماضي قصيدة لفرنسا ألقاها خلال مظاهرة رافضة للاستعمار الفرنسي: "يا فرنسا فكرك حاير، فكي عن حرب الجزائر، جلب القوة وصوت المدفع ما بتهدي الشعب الثاير"، كما كان يلقي أغانيه خلال برنامج مضافة أبو محمود، وهو برنامج كان يبث عند الساعة السابعة مساءً عبر الإذاعة الأردنية في ستينيات القرن الماضي، ويقدمه الكرمي مازن القبج، ويتحدث فيها عن أمور حياتية مختلفة.
بدوره، قال الباحث في الفن الشعبي حسين عطاري لـ"وفا": التقيت الشاعر عساف ثلاث مرات، المرة الأخيرة كانت بدايات 1964 وأطلعني فيها على دفترين فيهما ما يقارب 180 صفحة من الشعر معظمه شروقي، وقال لي ونحن في مقهى السنترال بعمان: قدمت مشروعا من 102 أغنية للإذاعة الأردنية.
وأبلغ عساف العطاري بأن كلمات كثيرة ذهبت لأسماء شعراء ومغنيين كثر. وبقي كفنان شعبي، واتفق مع عبده موسى أن يكتب له اشعار مقابل مردود مادي، وكتب لجميل العاص، وغنت له سلوى قطريب، وهناك قسم كبير من أغنياته حورت ونسبت لشعراء آخرين.
وبحسب الكاتب والباحث في الحداء والزجل الفلسطيني نجيب صبري، فإن علامات الإبداع الشعري، بدت على عساف منذ الصغر، وكان خاله يأخذه الى مدينة حيفا بدافع التباهي بالفتى الموهوب، ولم يأخذ قرشا واحدا من أهل قريته مقابل إحيائه لحفلات الأعراس، وكان معتمدا كمطرب في إذاعة الشرق الأدنى، يؤدي أغانيه وراء الميكروفون، قبل أن تنتقل الإذاعة الى قبرص كنواة لـ "بي بي سي". ومن أشهر المحطات التي شهدت حضور عساف: ما جرى بينه وبين الشاعر اللبناني أسعد سعيد في قرية الجلمة شمال جنين، حيث جرت مساجلة بينهما ما زال الجيل الماضي يذكرها بفخر.
ويذكر صبري أن بداية الستينيات شهدت زيارة لرئيس وزراء الأردن هزاع المجالي إلى جنين، تزامنت مع موسم البطيخ، بينما كانت العلاقة الأردنية السورية مقطوعة، فألقى عساف قصيدة زجلية أمام المجالي أدت الى فتح الحدود وبيع البطيخ الجنيني في دمشق وبيروت. كما أنه كان من الشعراء المدعوين لتوديع الجيش العراقي بعد صدور أوامر ملكية في بغداد لعودته الى العراق.
تأسست إذاعة الشرق الأدنى في جنين ما بين العام 1941 و1943 وبعد ستة أشهر انتقلت إلى يافا، وفي العام 1947 الى القدس، ثم الى قبرص في العام 1948 قبل وقوع النكبة بشهرين.
لم يتسنَ لـ"وفا" التأكد من أغنيات أخرى قالت عائلة الشاعر ومقربون منه، إن عساف هو من كتبها، وإنها أديت بأصوات مطربين كبار في الوطن العربي، بعضهم من أهم من غنوا التراث والفلكلور.