في الظل.. مخيم الوحدات: "سوق" لبيع "الأمل"!
بروفايل: بثينة حمدان
حين تتخطى فكرة "العمل" حدودها التقليدية، يكون مخيم الوحدات للاجئين الفلسطينيين هو العنوان، حيث أبدع الفلسطينيون وصاروا تجارًا محترفين يديرون أهم الأسواق الشعبية في الأردن، صاروا بشطارتهم يبيعون حتى "الأمل" للناس؛ أكبرها أمل العودة لفلسطين، وأقلها ربما الآمال اليومية للمستهلك، وصولاً لبيع الأمل للاجئين الجدد. نعم.. ليس اللجوء والبحث عن مأوى خيارًا حين تكون الظروف قاسية كما هي تحت الاحتلال الاسرائيلي، ورغم الحاجة إلا أن الخروج إلى سوق العمل يبدو خيارًا، لكنه فلسطينيًّا لايرتبط "أساسًا" بلقمة العيش بل يتعداه إلى التفوق من أجل تشييد "منارة الأمل" وبيعه في المخيم الأكثر شهرة، الأقوى اقتصاديًّا، والأنشط رياضيًّا بين مخيمات اللجوء الفلسطينية أينما كانت، في موقع يعد ملتقى جنوب عمان بوسطها، هذه سيرة حياة مخيم وليست طريق تجارية، تربط السند بالهند، هي قصة لاجئين صاروا عنوانًا للتفوق واحتضان لاجئين آخرين بل وفقراء المملكة ... وقبل وداع المخيم حصلت من أكرم على ميدالية تحمل اسم فلسطين وعلمها، قبضت عليها بسعادة وكأنني أقبض على "أمل" ثمين حصلت عليه "مجانًا".
إلى مخيم الوحدات
انطلقت الحياة الجديدة إلى مخيم الوحدات، وفي الطريق كانت أصوات مشجعي كرة القدم لفريق الوحدات الشهير تملأ الخيال. في الانتظار كان يوسف الوحيدي وهو عضو الهيئة العامة لنادي الوحدات الرياضي، التقينا في مقهى برج العرب القريب من المخيم للتحضير للجولة، اقترب النادل ليسجل طلباتنا فعرفت من يوسف أنه لاجئ سوداني كان يعمل في مطبخ الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، ما فجر تساؤلات كثيرة في جوفي لكنني سرعان ما عدت للتركيز في الجولة وطبيعة المخيم. يحاول يوسف مساعدة الفلسطينيين اللاجئين في الأردن وهو شخصية مركزية في قيادة النشاطات الوطنية في عدد من المخيمات الفلسطينية.
"الوحدات".. لم يعرف الخيام
ليس بشكل إغاثي وعاجل تأسس المخيم عام 1955، فقد بنت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) وحدات سكنية انتقل إليها اللاجئون من مخيمات أخرى حيث لم تعترف الوكالة بالمخيمات التي تأسست بعد عام 1952 إلا بمخيم الوحدات، ويعود اسمه إلى شكله المكون من وحدات سكنية كما يسمى بمخيم عمان الجديد. بدأ المخيم بخمسة آلاف لاجئ، صاروا اليوم 57 ألفًا منهم ثمانية آلاف نازح وصلوا عام النكسة، وبالتجول بين أزقة المخيم شاهدت وجوهًا تحكي عن جنسيات مختلفة، ففي المخيم مثلاً حي النور الذي يضم وافدين مصريين، ولاجئين عراقيين ابان الغزو الأميركي، ومؤخراً ضم لاجئين سوريين، عدا عن عائلات فقيرة أو من ذوي الدخل المحدود في الأردن والذين استأجروا منازل سكنية في المخيم من لاجئين تحسنت أوضاعهم فتركوا المخيم، عدا عن قيمة الإيجار المنخفضة في المخيم مقارنة بأحياء عمان الأخرى والملائمة لهذه العائلات.
حارة وتجارة وشطارة
انطلقنا من المطعم بعد أن انضم إلينا فراس القيسي الذي سأتحدث عنها لاحقًا هنا، وفي السيارة حدثنا يوسف عن شهرة المخيم التجارية والتي تعود لموقعه فهو يبعد ثلاثة كيلومترات عن عمان جنوبًا تحيط به مناطق الأشرفية والنظيف والقويسمة والدبايبة والمريخ.. وهو على حدود أمانة العاصمة عمان ويتبع إداريًّا لها. وقفنا قليلاً عند مفترق طرق وكانت كل التفرعات ممتلئة بكراجات السيارات، ولا يتوسط المفترق دوارًا أو مثلثًا بل مساحة فارغة قال يوسف عنها إنها كانت "حاووز" مياه أي صنبور مياه للسكان قبل أن تقوم الحكومة الأردنية بتمديد خطوط المياه، كانت كل هذه المحال لتصليح السيارات منازل للاجئين، وتلبي اليوم كل احتياجات السائقين الذين لا بد أن يمروا بهذا المفترق قادمين من الجنوب او الوسط.
"كرامة" لاجئ
ركن يوسف السيارة وسرنا في شوارع المخيم، أوقفتني سيدة لتسألني إن كنت أجنبية أعمل مع مؤسسة اغاثة، الفقراء يبحثون عن معونة في الطريق رغم التفوق التجاري للمخيم، فاللاجئ في الأصل "فقير" ماديًّا لا يملك سوى مفتاح العودة، تابعنا السير والتقطت بعض الصور في الأزقة، ثم توجهنا إلى إحدى عائلات المخيم، توقفنا عند صالون رجالي للحلاقة، انتظرنا انتهاء أكرم حمودة ابراهيم من أحد الزبائن ثم دعانا إلى منزله القريب، جلسنا واحتسينا كوبًا شهياً من الشاي وقدمت لنا زوجته الكثير من الحلويات وكادت تقدم لنا كل شيء في البيت لأن في بيتهم ضيفة من الأرض المقدسة ومن الوطن الحبيب.
كان أكرم رضيعًا لم يكمل الشهر حين نزحت عائلته عام 1967وهو اليوم لاجئ وأب لثلاثة فتيان وفتاتين يعمل في الحلاقة وأستاذ في أكاديمية القويسمة المهنية تحدث عن تاريخ المخيم الذي قال إنه أنشئ على مرحلتين الأولى بني فيها 1600 وحدة وبعد عامين أضيفت 1200 وحدة على مساحة خمسة كيلومترات. عاش أكرم مثل أطفال المخيم بلا مساحات للعب، وكان يقتصر اللعب في ساحات مدرسة الوكالة وبعض أزقة المخيم، أما النساء فمنفذهن الوحيد هو الوقوف باب المنزل لا أكثر.
كان يمكن لأبي نضال أن يعمل في أهم صالونات الحلاقة الفاخرة، لكن كرامته العالية كلاجئ منعته أثناء عمله في أحد صالونات الحلاقة في مناطق عمان الراقية من الحصول على اكرامية وأصر حينها أن يعيد الباقي للزبون، ثم اتخذ قرارًا أن يكون له صالونه الخاص في المخيم وتحديدًا عام 1986، وكما أخبرني: في المخيم أستطيع أن اتفاهم مع سكانه، وأنه سعيد بنصف دينار مقابل الحلاقة لثلاثة أطفال!
"الشهادة العلمية".. أملاك اللاجئ الحالية
كان في الجلسة في منزل أكرم إضافة إلى يوسف وفراس، الأستاذ الجامعي فتحي سبيتان، وجميعهم أكدوا لنا أن نسبة اللاجئين في المخيم باتت قليلة جداً ولا تذكر، وأصبح فيه جنسيات أخرى منها البنغال قادمين من شبه القارة الهندية، لذا لم يعد بإمكان نيروز ابنة أكرم والكثير من فتيات المخيم الوقوف أو التنزه قرب باب المنزل، فقد امتلأ بالغرباء، أما ابنه إياد "21 عامًا" فيشارك في النشاطات الوطنية ويتابع أخبار فلسطين وهنا علق فتحي: "راهنوا على جيل أوسلو" لكنهم فشلوا. وأضاف: "يقدر اللاجئون التعليم فلا شيء نعيش منه سوى الشهادة العلمية، والعلم هو جل أملاك اللاجئ بعد أن أخذوا أرضنا". كان فتحي مديرًا لمدرسة الأونروا في المخيم وكان يشاهد طلابه يغادرون الدراسة للعمل في بيع الحلويات، مشهد مؤلم لكنه ردة فعل للواقع الذي يعيشونه، لكنه كان يحارب كي لا يترك طالبًا في المدرسة التعليم فأسس صندوقًا اجتماعيًّا لمساعدة الطلبة الفقراء.
في المخيم أيضاً مركزان صحيان تابعان للأونروا وست عشرة مدرسة فيها أكثر من عشرة آلاف طالب تعمل بنظام الفترتين لتستوعب عدد الطلاب والتقليل من مشكلة الاكتظاظ.
كيف يقدس الفلسطينيون "حبهم" للوطن؟
كنا ننتقل من مكان لآخر وفي هذه المدينة وعند أطراف المخيم تقع مقبرة أم الحيران، حيث تنبعث رائحة المسك، فيتذكر فراس وكل من يمر بعشرات الشهداء من الفلسطينيين ومن القوات المسلحة الأردنية الذين ارتقوا في معركة الكرامة، والتي أعادت لذاكرتنا محاولات قوات الاحتلال الاسرائيلي عام 1968 احتلال نهر الأردن فوصلت الضفة الشرقية له ووصلت قرية الكرامة الأردنية فاشتبكت مع الفدائيين الفلسطينيين لخمسين دقيقة ثم اشتبكت مع القوات الأردنية ست عشرة ساعة قبل أن تنسحب. في المقبرة نصب تذكاري للشهداء الفلسطينيين وآخر للشهداء الأردنيين. المقبرة هي محط أنظار الزوار لا سيما في المناسبات الوطنية وفي ذكرى المعركة وهي الحادي والعشرين من آذار، فيها يقدس الفلسطينيون "حبهم" للوطن.
إلى ملعب النجوم
أخيراً وصلنا ساحة النجوم حيث نادي الوحدات، استقبلنا بسام شلباية المسؤول الاعلامي للنادي والمنسق الدوري والذي أخذنا في جولة بين قاعات النادي، ومسيرة حياته التي بدأت بتأسيسه من قبل وكالة الغوث عام 1956 مثل كل النوادي التي أسستها الوكالة بخيمة كبيرة تحولت إلى انجاز رياضي، وفي عام 1966 أصبح تابعًا لوزارة الشباب والرياضة الأردنية كبقية النوادي ولم يعد يقتصر لعبه على بطولة تشارك فيها نوادي المخيمات الفلسطينية فقط، بل بطولة المملكة الأردنية، وكان الكأس الأول عام 1980 حين وصل الفريق مرحلة الدوري الممتاز وفاز به أربع عشرة مرة على مدار عدة سنوات، ومنه انطلق آسيويًّا وعالميًّا، واليوم يلعب من فريق الوحدات نحو ستة لاعبين في المنتخب الأردني وثمانية في المنتخب الأولمبي. كنت أرى كل الكؤؤس أمامي وبسام يشرح ويشير إلى كأس الأردن وكأس الكؤوس.. كان أمامي العشرات من الكؤوس والميداليات الذهبية والفضية التي تحكي ببساطة أسباب شهرة نادي الوحدات والتي حوّلت بؤس المخيمات إلى بطولة وانجاز وانتصار.
يعتاش النادي من مئة متجر تتبع له عدا عن الشركة الراعية له وإيرادات المباريات والبث التلفزيوني واحتراف وبيع اللاعبين.
في السوق
"أكل" السوق في المخيم ثلث مساحته، فتحولت المنازل إلى متاجر ومستودعات، وفيه حسبة الخضار التي يتوافد عليها المواطنون من أنحاء عمان، لتنوعها وأسعارها المناسبة، كما أن بإمكانهم أن يجدوا في السوق كل ما يحتاجون إليه من طعام وشراب ولحوم ودجاج وأرانب وملابس وبضائع منوعة وبأسعار مختلفة، ويعمل العديد من باعة الخضار في الزراعة. المخيم هو سوق تجاري كبير يضم 2500 متجر وأكثر من عشرة مخابز وعشر صيدليات، وفيه تبيع النساء اللاجئات "المفتول" الفلسطيني الذي أبدعته أيديهن.
اتحاد الاخوة.. ونجاح التجارة
في نهاية الجولة ذهبنا مجددًا إلى مطعم برج العرب حيث اعتاد أن يلتقي فراس ويوسف والكثير من الأصدقاء لا سيما لمتابعة مباريات الوحدات، وهنا بدأت التعرف أكثر على فراس والذي يحكي عنه حسابه على مواقع التواصل الاجتماعي فيختصر بعضًا من حبه لفلسطين، فهو مشارك أساسي في النشاطات الوطنية في المخيم، يتلفح بكوفية الفدائي والقائد والعضو الفاعل وحتى مشجع كرة القدم، هو فراس القيسي (45 عامًا) الذي هجرت عائلته من بلدة بيت أمر قضاء الخليل، ابن مخيم الوحدات يعيش في كنف عائلة كبيرة له ستة اخوة وسبع أخوات، وكان لهذه الكثرة أفضل المحاسن فقد حولت العائلة اللاجئة الفقيرة القاطنة في الوحدات إلى مجموعة من التجار فكان الأخوة يضعون في جيب الوالد كل رواتبهم، واشتركوا بدعم والدهم في شراء سيارة شحن كبيرة ثم افتتاح متجر لأحد اخوته في المخيم وهكذا راكم الأخوة جهودهم وخبرتهم وتوسعوا في مجال توزيع المكيفات وشاحنات المياه ومتاجر لقطع الهواتف النقالة والحواسيب.
وصف لنا فراس منزلهم البسيط؛ ثلاث غرف اثنتان منها معقودة وواحدة مغطاة بالزينكو ومطبخ، أما الحمام فخارجي، ينام الأخوة في الصيف في ساحة تتوسط البيت غير مسقوفة، وفي الشتاء يتكومون في غرفة واحدة، هذا الضيق لم يمنعه من التخرج بتخصص المحاسبة من كلية ناعور ولا أن يمتلك تجارة أو أن يستمر في حب فلسطين.
تذكره حياة المخيم بالألفة بين الجيران، وبسهولة التنقل من بيت إلى بيت بالقفز بين أسطحها، داس فراس شوارع المخيم غير المعبدة المليئة بالطين واستنشق كالآخرين رائحة المياه العادمة عبر قنوات مكشوفة بين المنازل، ولهذا يذكر فراس "العرس الوطني" في الثمانينات المتمثل بتعبيد الشوارع.
أما الرائحة الحقيقية التي لا تغيب عنه فهي رائحة وجبة المفتول الأكلة الشعبية المحلية، كما لا ينسى "الجريشة" المصنوعة من البرغل والتي توزع في المخيم عن روح فقيد من المخيم لكل الحارة وفي اليوم الثالث يختتم بالمفتول، أما حلو الرز بالحليب فمذاقه الأصلي بالنسبة إليه مكون من حليب الوكالة طبعًا. كان فراس واخوته يحملون كرت المؤن ويقفون عند مطعم وكالة الغوث للحصول على وجبات الفاصولياء ومجدرة العدس وعلب اللحمة وزيت السمك خاصة للأطفال.
عن الحياة الجديدة