الكرامة.. القرار التاريخي بأن نكون - موفق مطر
ما كنت اعلم ان التصاقي بمذياع والدي القديم وانصاتي ومتابعتي لأحداث معركة الكرامة ساعة بساعة قبل 48 عاما سيقربني يوما ما بحواسي لاستمع الى نبضات قلوب اهلنا المقدسيين وانفاسهم الوطنية عن قرب، وأرى والمس أحزان ابراج كنائس القدس ومنابر مساجدها وحجارة بيوتها العتيقة التي كسرتها نكسة حزيران. قبل 21 آذار من العام 1968 كنا نفاجأ ببلاغات حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" المطبوعة باساليب بدائية تحت ابواب منازلنا، ثمينة الى حد التفاخر بمن حظي بواحد منها..كنا فتيانا...لكن اساتذتنا جعلونا نرى الدنيا بعيون الكبار..فنكبة 1948 ضاعفت اعمارهم ومسؤولياتهم، فعكسوها علينا تربية وطنية، ووعيا والتزاما، وانتماء للوطن، من نشيد عائدون الصباحي، الى رسم فلسطين من الخيال. بعد 21 آذار وبعد انتشار خبر الصمود والمقاومة الاسطورية على حدود فلسطين الشرقية، وصور الدبابات الاسرائيلية المدمرة وناقلات الجند المجنزرة، وصور جنود الجيش الاسرائيلي الذي لا يقهر مقهورين مكسورين، وخيبة موشيه دايان – وزير الدفاع حينها - الذي وعد الصحفيين العالميين بالقبض على قيادة فتح وجلبهم بالشباك، فاذا به وبجيشه يقعون في كمين الارادة الحرة والايمان والقرار التاريخي.. فموشيه دايان الخارج قبل 9 شهور منتصرا من حرب على جيوش ثلاث دول عربية، عاد الى مقر قيادته وفي جعبته اقرار بأن فتح قد ثأرت لكرامة العرب، وان مكسب حرب حزيران لن يؤمن السلام لاسرائيل. دايان قال حينها ( المخربون) كالبيضة في يدي اكسرها متى اشاء، لكنه ودولته وجيشه عندما جرب كسرها خرج منها طائر الفينيق ( حركة التحرر الوطنية الفلسطينية ) ليعلن نهاية زمن نكبات ونكسات وانكسارات الشعب الفلسطيني والامة العربية، وابتداء انكسارات المشروع الصهيوني، وفي ادنى الحالات ايقاف تمدده. تغيرت اجواء مدارسنا، وصرنا نقرأ البيانات علنا بعد النشيد وقبل الدخول الى الصفوف، لم نكن نعلم ان اساتذتنا ومعلمينا كمحمد سعيد طروية وابو السعيد، وصلاح زواوي مدير مدرسة سمخ في مخيم العائدين في مدينة حماه في سوريا كانوا يعدونا للحظة كسر الخوف وانطلاق روح الفداء من قمقمها، والاعلان للعالم: ها نحن الفلسطينيون، ها نحن العرب، ها نحن الأحرار في العالم، ومعنا كل المؤمنين بحرية الانسان والأوطان، وبالشرائع السماوية، وبالقوانين الدولية، كلنا معا في ثورة حتى النصر. كتب فدائيو فتح وجنود الجيش العربي الاردني ملحمة الكرامة، وقدموا للأمة نموذج البطولة، والتضحية، والفداء والافتداء كونه الحقيقة الكامنة في شخصية العربي. استنهضوا عزيمة الامة وبعثوا فيها كرامتها. ادركت قيادة حركة التحرير الوطني الفلسطيني التي كانت قد اطلقت شرارة الثورة الفلسطينية قبل حوالي 1175 يوما من تاريخ معركة الكرامة ان قرارها بالمواجهة المباشرة خلافا لمبدأ حرب العصابات (وعمليات المجموعات الفدائية) سيغير وجه المنطقة ايا كانت النتائج، وفعلا كان قرارا تاريخيا، لأنه نبع من عقول مؤمنة، ففي مثل هذه المعارك لا ينتصر اصحاب السلاح، وانما اصحاب الحق بسلاح الايمان. قرار المواجهة، نحت على جدارية التاريخ العربي وحدة المصير والدم في ميادين المعارك من اجل فلسطين، حينما باتت ارادة الفدائي الفلسطيني المناضل مع ارادة الجندي العربي الاردني حصن الدفاع عن شرف الأمة وكرامتها، وأرض الوطن وحدودها، وحينما حرروا الأمة من أمراض النكسة، وخلقوا حالة ثورية اوقفت تمدد المشروع الصهيوني الاحتلالي الاستيطاني العنصري. التضحية والصمود والصبر والبطولة في المقاومة في يوم واحد من صراعنا مع المشروع الصهيوني اثمر خمسين عاما ونيفا من الآمل بالحرية والاستقلال، والعمل الوطني، النضالي والابداعي. القرار التاريخي لقائد الثورة الفلسطينية ياسر عرفات – رحمه الله - ومن معه من المناضلين والقادة الأوفياء لصنع ملحمة الكرامة قبل 48 عاما، كان بذرة القرار التاريخي لقائد حركة التحرر الوطنية الفلسطينية ورئيس الشعب الفلسطيني محمود عباس ابو مازن، لقرار تاريخي بتغيير قوانين الصراع والاتجاه للأمم المتحدة لنيل اعتراف بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران بعاصمتها القدس الشرقية، وبمنظمة التحرير الفلسطينية بمثابة حكومة الفلسطينيين في المنفى وبالمجلس الوطني باعتباره برلمان الفلسطينيين. القرارات التاريخية يأخذها القادة الشجعان..في الحرب والسلم، اما اعظمها فهي القرار بالتضحية بالذات والنفس افتداء للمبدأ. ابطال الكرامة بالأمس هم الوحي والملهم لابطال الكرامة اليوم..فالانسان ان يكون حرا بكرامة او لا يكون.