بين الأسرى وذويهم .. ذكريات القماش والتطريز
يامن نوباني
بما تيسر من أدوات بسيطة وبدائية، يشغل الأسرى أوقاتهم، بصنع مطرزات تأخذ شكل الوطن والحب، يخطون عليها عبارات الشوق، وتاريخ انتهاء عملها، وأسماء السجون التي يقبعون فيها، موثقين بذلك مشاعر وأماكن غيرتها المرحلة، كسجون الفارعة والخليل وجنين ونابلس ورام الله، وغيرها مما أغلقت وتبدلت.
خواتم من خرز، هي ما تبقى لعبد الرحمن أبو زيد، من شقيقه بلال، الذي استشهد في سجن "مجدو" عام 1995، "كنت صغيرا حين استشهد بلال تحت التعذيب والتحقيق، وأصبحت المطرزات البسيطة التي تركها لنا ذكرى تعادل الدنيا، تحمل شوقه لنا، وغلاوته ورائحته فيها".
الكاتبة والباحثة المقدسية مليحة مسلماني، تحتفظ بدرع نسجه والدها الأسير المحرر علي مسلماني، الذي أمضى 30 عاما في سجون الاحتلال الإسرائيلي، أطرافه مزخرفة بعلم فلسطين، ويتوسطه قلب متوج بصورتها، بينما يتكاثف الخرز الملون على أجزائه.
"صنع والدي في الأسر مجسمات للمسجد الأقصى وقبة الصخرة، ودروعا لأشقائي، قبل أن يفاجئني بدرع يخصني ويحمل صورتي. كتبت عن والدي رواية، وأعمل على مشروع فني يوثق رسائله من داخل الأسر على مدار الثلاثين عاما". تقول مليحة.
أما الشابة صابرين أبو لبدة المولودة عام 1992، فتقول حول علاقتها بهدايا الأسر: اعتقل والدي قبل ولادتي وحكم بالسجن لمدة ست سنوات، وذلك عام 1985، وكان يستغل وقت فراغه في نحت قطع فنية وصنع ميداليات وأساور، من حجر الصوان، أو قطع بلاستيكية صلبة، يحفرها بواسطة دبوس لوضع تعليقة بداخلها، وهو أمر يتطلب طول بال وتحمل كبيرين.
لم تنس أبو لبدة الهدية التي صنعها لها عمها محمد أبو لبدة في سجن "مجدو"، وهي عبارة عن صندوق صغير مطرز بالصوف والكرتون المقوى.
وتشير إلى أنها تحتفظ بأعمال يدوية أخرى، منها: مصحف مغلف بقماش مخمل أحمر، وبراويز متنوعة، وسفينة طولها 34 سم وعرضها 17 سم، مشغولة بأكملها من الصدف، "كان عمي يمضي جل وقته في الأشغال اليدوية، لكن حرق سجن مجدو في تلك الفترة، ونقل الأسرى إلى سجن النقب الصحراوي أضاع معظم منتوجاته".
وتضيف: "هذه الأشياء البسيطة لها معنى كبير لدي وأحتفظ بها جيدا، لأنها تجسد معاناة وشوق شخص لا تدري إن كنت ستراه مرة أخرى أم لا، وأمي ذات الشيء، تحتفظ بالأساور التي صنعها لها والدي قبل أكثر من ثلاثين عاما".
بعضهم لم يرجع، فقد صار شهيدا، وبعضهم صاغه الأسر وصنع منه ما صار عليه اليوم، وآخرون نفوا، ومنهم من قاده الأسر إلى أمراض مزمنة، وفي كل الحالات لم ينسَ أسير أهله وأصدقاءه، صانعا بينه وبينهم وصلة، من عتمة زنزانته، عبر المطرزات والمجسمات والرسائل الورقية والأشكال الفنية البسيطة، مقربا المسافة بذكريات عمية تحفر العلاقة، وتتحول إلى وثيقة تُزين منازلهم وحقائبهم ودفاترهم، ذكرى لا تنتهي، تحمله إليهم، وينتظرونه.