سيّدة الصّبر جُنت مرتين
رامي سمارة وإيهاب ريماوي
ظنّ أهل كوبر أن سميرة البرغوثي جنّت، لمّا وجدوها تحادث صورا معلقة على جدران منزلها، كيف لا ولم يبق حولها من يؤنس وحدتها، فزوجها فخري في السجن، وكذلك نجليها شادي وهادي.
كانت تعاتبهم، "لماذا تركتوني وحيدة، ومن سيعينني على هذه الحياة الصعبةإ ألا تعلمون أنني أخشى الوحدة؟".
عاشت سميرة "أم شادي" ثلاث سنوات ونصفا بلا ظهر، لم تجد من تتكئ عليه، لا أحد تحكي له وليس هناك من تبث له همها، سوى مناجاة نُسخٍ مؤطرة لوجوه رجالها الثلاثة.
"صعبة صعبة، لم ترق تضحيتي لمستوى عائلات الشهداء، ولكنني أقوم على ألم وأمسي عليه". تقول البرغوثي.
"يقضي فخري حكما بالسجن المؤبد، وشادي نجلي الأكبر حكم 27 عاما، وهادي دخل المعتقل، كلهم في السجن دفعة واحدة. ماذا لسيدة مثلي أن تفعل وحيدة بين أربعة جدران؟".
حرص أقرباء البرغوثي على فتح منازلهم لها، وتنقلت بين بيوت عائلتها، وحماها، وأسلافها، كلهم كانوا يدركون حالة الوحدة التي تعيشها، وكذلك معنى بقاء سيدة وحيدة، فحرصوا على إيوائها.
أن تتخذ مكانا للعيش مع أبنائك حتى لو في منزل أحد أقربائك ليس مريحا، كانت هي وأبناؤها يمارسون طقوس الحياة اليومية في غرفة واحدة تستخدم لكل الأغراض.
"ابناي حين كبرا كانت إحدى أمانيهم أن يستقبلا أصدقاءهما داخل غرفة ضيوف، في الشتاء لا زوار وفي الصيف نستقبلهم على سطح المنزل"، تقول البرغوثي.
أحست أم شادي بحصار داخل منازل أقرباء زوجها، كانت تشعر أنها مكبلة لا تستطيع القيام بأي شيء تريده في أي وقت تختاره، ببساطة لم تكن حياة طبيعية.
رصدت قيام بيتها الخاص كي تشعر بالاستقلالية والراحة خلف باب يوصد عليها وعائلتها حتى لو كان باب زنزانة، كما اقترح عليها بكرها ذات مرة ممازحا: "ما رأيك أن نعترف عليكِ لنجتمع في سجن واحد". كان ذلك عام 2004.
باب البيت أوصد كما أرادت لعامين رغم أن أصحابه جميعا لم يجتمعوا تحت سقف واحد، وأوصد ذات الباب ثلاث سنوات ونصفا غصبا ووحدة، رغم أن شملهم لم يجتمع وراء قضبان واحدة.
تعرف الغياب منذ 38 عاما من أصل 57 حين أخذت شهيقها الأول، لم تسقط من ذاكرتها تفاصيل ليلة اعتقال فخري، شادي عمره 11 شهرا لا يكف عن البكاء وفي أحشائها هادي جنين يكبر، وهي متسمرة على الأرض فزعة من تفاصيل الحادثة.
كان ذلك في 23 يونيو/ حزيران 1978، الاعتقال حينها لم يكن أمرا شائعا كما هو اليوم.
حكم على فخري بالسجن المؤبد بتهمة مقاومة الاحتلال والانتماء لحركة فتح، سمح لزوجته بزيارته الأولى بعد عام، إلا أنها فوتت الموعد لأنها وضعت هادي، وبعد شهر اصطحبت الرضيع والطفل إلى سجن بئر السبع.
يصعب على سميرة تذكر كم مرة زارت، 34 عاما متواصلة وهي تلاحق زوجها من سجن لآخر إن لم تمنع من ذلك، قبل أن تتضاعف المشقة وتتوزع بين زوجها، وابنها البكر المعتقل منذ عام 2003، ونجلها الأصفر هادي الذي اعتقل في ذات العام وأفرج عنه بعد قضاء حكم بالسجن لثلاث سنوات ونصف.
"كنت أتنقل خلال تلك الفترة بين سجون مختلفة، اجتمع فخري وشادي وهادي في سجن عسقلان. حين كنت أراهم سوية خلال الزيارة أشعر بألم أكبر ولكن بمشقة أقل. نعم هم أسرى ولكنهم اجتمعوا للمرة الأولى على الأقل. كان لقاء تعارفيا" تقول البرغوثي.
يبدو لسميرة 17 نيسان/ أبريل "ساحة للاستعراض، تقام للأسرى وذويهم مهرجانات واحتفالات، وتلقى خلالها الكلمات والخطابات، ويبقى بعد ذلك خبر على رأس الصفحة الأولى: احياء يوم الأسير".
"التقصير لا يختلف عليه اثنان، يوم من السنة يصب فيه الاهتمام نحونا، وثم، أثر بعد عين. لا أحد يعود ليسأل عن أحوالنا، إلا من رحم ربي. الأسير في كل يوم وليس في هذه المناسبة فقط"، تضيف البرغوثي.
"من قال إن أم الأسير أو زوجته تغلق على نفسها الباب تنتظر الفرج، كنت ألاحق ابني اللذين كبرا على سيرة فخري ونضالاته؛ في ميادين المواجهة، رأيت بأم عيني يوما رصاصة مطاطية تصيب جسد هادي، ومرة قال لي شادي احمدي الله أنني ما زلت على قيد الحياة". تقول البرغوثي.
لاحقتها المواقف الصادمة مذ كانت في الثامنة عشرة، أصعبها لما نُطق حكم سجن زوجها، كانت تظن أنه سيغيب فقط خمسة عشر عاما كأقصى تقدير، وعندما علمت أن فخري البرغوثي ضمن قائمة صفقة التبادل الأخيرة؛ انطلقت تركض في طرقات البلدة مزهوة كطفلة.
حينها، وللمرة الثانية ظن أهل كوبر أنها جنّت.