دراسة: جماعة الإخوان المسلمين في الحكم: بين الفكر والممارسة
د. سنية الحسيني
جاء صعود الحركات الإسلامية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين إلى صدارة السلطة، كنتيجة مباشرة لحالة الثورة التي شهدتها المنطقة، ليعيد تركيز الاهتمام على تلك الحركات. وتحاول هذه الورقة البحثية تتبع تجربة جماعة الإخوان المسلمين في مصر في الحكم، لفهم وتحليل هذه التجربة ومقارنتها مع تجربة الجماعة قبل وصولهم إلى سدة الحكم، في إطار الثوابت الفكرية والإيديولوجية والتنظيمية التي تحكم أداءها عموماً.
مرت جماعة الإخوان المسلمين في مصر بأحداث وتطورات هامة قبل وصولها إلى الحكم، أوجبت قيامها بمراجعة وتكييف لمفاهيمها وأفكارها، حتى تستطيع مواكبة هذه الأحداث والتطورات. غير أن تجربة الجماعة في الحكم لا توحي بأنها قد قامت بمثل هذه المراجعة والتكييف فعلياً. ومن هنا تبرز المشكلة التي عانت منها جماعة الإخوان وهي على سدة الحكم، وساعدت على سقوطها مبكراً.
وتسعى الدراسة إلى تحديد ورصد الإشكاليات التي واجهت جماعة الإخوان في الحكم، من خلال متابعة سياسات وممارسات قيادات الجماعة، بعد وصولها إلى السلطة، ومقارنة ذلك مع توجهاتها في الخطاب والممارسة، وهي في صفوف المعارضة قبل وصولها إلى السلطة. كما تحاول أن تقدم تفسيرات لأداء ومواقف جماعة الإخوان المسلمين وهي في السلطة، من خلال ربط هذا الأداء بالمنظومة الفكرية والإيديولوجية والتنظيمية للجماعة وبتجربتها التاريخية.
تذهب فرضية هذا البحث إلى أن قصر تجربة جماعة الإخوان المسلمين في الحكم نابع من عدم قدرتها، وربما عدم رغبتها، في مراعاة مقتضيات منظومة العملية الديمقراطية، القائمة على احترام مبادئ الشراكة والتعددية السياسية والديمقراطية، والاعتقاد بإمكانية الالتفاف على هذه المقتضيات، والحكم طبقاً لمبادئ ومنطلقات مشروع جماعة الاخوان الإسلامي. وسيقوم البحث على دراسة هذه الفرضية في إطار تجربة جماعة الإخوان المسلمين، بعد وصولها إلى السلطة في مصر عام 2012، وعلى أساس أن هذه الجماعة قد مارست عملها السياسي في إطار المعارضة أيضاً.
تبحث الدراسة في عدد من القضايا أهمها، الرؤية التقليدية لجماعة الإخوان المسلمين لمفاهيم الأمة والدولة والمواطنة وموضوع الحكم والديمقراطية، ومدى اختلاف رؤية الجماعة في مصر لمثل هذه القضايا أثناء وجودها في المعارضة والسلطة. وتعتبر قضية البحث عن نموذج إسلامي سياسي مرجعي للجماعة طريقاً لفهمها. وكذلك معرفة مدى انسجام تصريحات وأفعال قيادة جماعة الإخوان وهي في السلطة مع المنطلقات الفكرية التي قامت عليها الجماعة ونادت بها لسنوات طويلة.
يحمل فكر الجماعة العديد من الأبعاد، التي تضع محددات عامة لهويتها. ويستمد فكر الجماعة مصادره من وثائق الجماعة وأنظمتها، وتصريحات ورسائل مرشديها وقياداتها البارزين. وتتجلى هوية الجماعة بشكل أكبر عندما يتقاطع الفكر مع الممارسة العملية لمرشديها وقياداتها، خصوصاً تجاه قضايا جوهرية تعد ركائز أساسية تعكس رؤية الجماعة وبنيتها الفكرية، مثل الدين وأهميته والسياسة ودورها، بالإضافة إلى رؤية الجماعة لنظام الحكم وشكل الدولة وطبيعة المجتمع، وكذلك قياس توجه الجماعة تجاه قضايا كالشراكة السياسية والتعددية الحزبية ومفاهيم المواطنة والديمقراطية التي لا تنفصل بأي حال من الأحوال عن الحريات العامة وحقوق الإنسان، حتى وإن كانت الجماعة لا تفصح صراحة عن موقفها تجاهها.
الدين وأهميته في منظومة فكر الجماعة:
التزمت جماعة الاخوان المسلمين بالدين كمحدد لقيم الجماعة، وسعت جاهدة لفرضه على منظومة قيم المجتمع المصري. وتقوم جماعة الإخوان على الأصول والقواعد التي جاء بها القرآن الكريم،[1] فهي دعوة إسلامية محمدية، لها برنامج واضح الحدود، ظاهر المعالم، تعتبر الرسول زعيمها والقرآن منهجها والإسلام غايتها.[2] وعرفها (حسن البنا)، مؤسس الجماعة بأنها دعوة سلفية، طريقتها سنية، وحقيقتها صوفية.[3] وتدعو الجماعة إلى صبغ الحياة المصرية بالصبغة الإسلامية، وهيمنة تعاليم القرآن على جميع مظاهر الحياة، من تشريع واجتماع وسياسة واقتصاد،[4] لذلك اهتمت الجماعة بتقوية معاني الإيمان في نفوس منتسبيها.[5]
يرى (البنا) أن الإسلام مفهوم شامل يعني عبادة وقيادة ودين ودولة وروحانية وعمل وصلاة وجهاد وطاعة وحكم ومصحف وسيف لا ينفك واحد منها عن الآخر،[6] فالاسلام يشمل أوضاع الكون والمجتمع والفرد، سواء كان ذلك عقيدة أو شريعةً أو سلوك،[7] وهناك ترابط وثيق بين العقيدة والشريعة والسياسة وبين الفكر والتنظيم الحركي. فمزج (البنا) بين فقه الأزهر ووجدانيات الصوفية ووطنية الحركة السياسية.[8] ويعد شمول الإسلام الأساس الفكري لدعوة جماعة الإخوان.
وتتفق جميع الحركات الإسلامية المعاصرة، والتي تعود أصولها الفكرية إلى فكر جماعة الإخوان، على أن الإسلام منهج حياة، كفيل بإعادة توجيه الأمة، وإعادة الاعتبار إليها إقليمياً ودولياً، على أساس شمولية الإسلام لجميع جوانب الحياة، والسعى إلى إعادة بناء المجتمع في إطار إسلامي شامل، رغم اختلاف تلك الحركات في الأساليب والوسائل والأولويات. فالإسلام عند تلك الحركات، ومن بينها الجماعة، يعد أيديولوجيا ومنظومة قيم، تقدم بدائل عن المنظومات الفكرية السياسية غير الإسلامية السائدة والحاكمة، وتطعن في شرعية الحضارة المهيمنة، وتعلن عن الإسلام كعلاج لمشاكل العالم.[9]
دعا فكر (البنا) إلى تجديد الاسلام، فجاء استكمالاً لما بدأه رواد الحركة الإسلامية الأولى (جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا)، وقبل بمبدأ الحوار بين الفكرين الإسلامي والغربي، والاستفادة من علوم وثقافة الغرب والأنظمة الديمقراطية، على أساس القبول بكل ما فيه نفع للأمة دون تعارض مع أصول الدين.[10]وقدم فكر (البنا) اتجاه تجديدي في الفكر الإسلامي، وكان الأكثر مرونة وانفتاحاً لما يمكن أن يأتي به الفكر السلفي،[11]وعرفت الجماعة فكرها تحت إطار الإسلام العصري وحركة النهضة التي دشنها (جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده)، الإصلاحيان اللذان شكلا فكر (البنا).[12]
بدأ (البنا) رسالته دعوية، لا تنفصل عن الواقع الذي نشأت فيه، من حركات تغريب وتنصير جاءت عقب حالة الانهيار التي لحقت بالدولة العثمانية والتصدع الذي تلاها. فاعاد (البنا) صياغة التصور الإسلامي حول قضايا الواقع الذي عاصره،[13] مركزاً على قضية النهضة على أساس المزج بين الفكر السلفي والإصلاحي. وتحولت جماعة الاخوان من مجرد جماعة دعوية إلى حركة منظمة تطالب بالإصلاح.[14] فدعا (البنا) إلى إصلاح القانون بما يتفق مع التشريع الإسلامي في كل فروعه، وتقوية الجيش على أساس الجهاد وبث روح الإسلام في الدواوين الحكومية وإعمالها بين موظفيها، ومراعاة تعاليم الدين واستخدام الأزهريين في الوظائف العسكرية والإدارية.[15]
وسعت جماعة الإخوان إلى نشر دعوتها في باقي الأقطار، وإلى تحرير كل شبر من الأرض فيه مسلم واحد، ونشر الإسلام ورفع راية القرآن في كل مكان،[16]بهدف الوصول إلى أُستاذية العالم. وتريد جماعة الإخوان من الشعب المصري أن يكون أمة نموذجية، تسير على خطاها الأمم الشرقية جميعاً، وتريد من هذه الأمم وحدة إسلامية تأخذ بيد الإنسانية جميعاً إلى تعاليم الإسلام.[17] كما تدعو الجماعة إلى تقوية الروابط بين الأقطار الإسلامية، والتفكير الجدي في الخلافة الضائعة.[18] ولم يتغير شعار الجماعة، (الإسلام هو الحل) منذ نشأتها عام 1928، وبقي رمزاً ثابتاً لها ترفعه خلال مراحل تطورها المختلفة، واستخدمته لأول مرة عام 1987 كشعار انتخابي لها، وبقي كذلك قبل وبعد ثورة عام 2011.
في عام 1949 دعا (البنا) الملك فاروق والحكام إلى العودة لتحكيم كتاب الله وسنة رسوله.[19] وكان أحد الأسباب الرئيسية في تأزم علاقة الجماعة مع الرئيس (جمال عبد الناصر)، تراجعه عن وعده للجماعة بأسلمه الدستور، رغم مساندة الجماعة لحركة الضباط الأحرار قبل الثورة، وايجابية العلاقة بين النظام والجماعة بعد الثورة، حيث استثنيت الجماعة من قرار الرئيس (عبد الناصر) بحل الأحزاب في بداية عهد الثورة. والتزم الرئيس (أنور السادات) بجعل الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع في الدستور، في ظل علاقة مهادنة بين الجماعة والنظام في بداية عهد السادات. إلا أن (عمر التلمساني) مرشد الجماعة في نهاية عهد السادات انتقده واتهمه بأنه لا يحكم بالشريعة الإسلامية، معتبراً حكمه بأنه امتداد للحكم العسكري الشمولي.[20]
وخلال حقبة الرئيس (محمد حسني مبارك) ورغم تأرجح أجندة الجماعة طوال ثلاثة عقود ما بين دعوات تطبيق الشريعة الإسلامية، وجعل عملية الفتوى جزء من العملية التشريعية، وتعزيز القيم الدينية والأخلاقية خلال عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، وما بين التركيز على قضايا الإصلاح السياسي والقانوني، والسياسات الاجتماعية والاقتصادية، وانتهاكات حقوق الإنسان، واستخدام أدوات الرقابة البرلمانية على أداء الحكومة خلال العقد الاخير، بقي شعار الجماعة "الإسلام هو الحل" حاضراً. وبالرغم من اتهام جماعة الاخوان بتراجع برنامجها الديني والأخلاقي خلال الدورات البرلمانية الثلاث (2000، 2005، 2010)، قدم أعضاؤها في البرلمان عام 2002 تشريعاً لتعديل القوانين في إطار الشريعة الإسلامية، واقترحوا تعديلات للحفاظ على استقلالية مؤسسة الأزهر، وإصلاح إطارها المؤسسي، ونادوا بضرورة انتخاب شيخ الأزهر ومجلس علماء الدين بدل تعينهم من قبل الحكومة. وفي حين واصل أعضاء الجماعة في البرلمان السعي لتحقيق برنامج الجماعة الديني بطريقة غير مباشرة، وأعطت قيادات مكتب الإرشاد الاهتمام للقضايا الدينية والأخلاقية.
بعد وصل الجماعة إلى الحكم، سعت إلى تعديل دستور عام 2012 وفق رؤيتها الدينية. فانتقدت القوى السياسية المصرية اللجنة التأسيسية التي وضعت الدستور، ووصف الدستور الجديد بأنه الأكثر اسلامية في تاريخ مصر. فنجحت الجماعة في الاحتفاظ في الدستور الجديد ببنود عديدة سابقة وردت في الدستور السابق، على رأسها المادة الثانية التي تنص على أن الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع، إلا أن سعي الجماعة إلى إضافة مواد جديدة تفسرها وتدعمها، شكك في نواياها. فجاءت المادة مائتين وتسعة عشر لتفسير المادة الثانية بتحديد مبادئ التشريع ضمن حدود الشرائع الدينية لاهل السنة فقط، مما أفقد النص الدستوري المرونة اللازمة التي تعمل في اطاره التشريعات المصرية، التي تستعين بتشريعات غربية أخرى بإلاضافة إلى الشريعة الاسلامية، وميزت المادة المستحدثة بين مواطني الدولة المصرية، لصالح أهل السنة.
وجاءت المادة الرابعة من دستور عام 2012 لتنظم دور مؤسسة الازهر وتمنحها استقلالاً كبيراً، على الرغم من أن مؤسسة الازهر لم يذكرها أصلاً في دستور عام 1971. يأتي ذلك في ظل عدم وضوح الآليات التي سيتم التشاور من خلالها مع مؤسسة الازهر فيما يتعلق بالشريعة، مما زاد القلق من سيطرة مؤسسة الازهر على مؤسسات الدولة. وجاءت المادتان العاشرة والحادية عشر لتمنحا الدولة صلاحيات واسعة في تحديد شكل الاسرة المصرية وحماية الاخلاق العامة، بما يزيد من سلطات الدولة في كبح الحريات الشخصية.
ويبقى فكر (البنا) المبني على المحدد الديني، كأساس لفكر الجماعة قائماً حتى اليوم، ففي تصريح للجماعة عام 2006، دعت فيه الأنظمة العربية إلى تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية،[21] ليذكر بنفس دعوة (البنا) عام 1949 إلى الملك فاروق. وبقيت دعوة الجماعة إلى تطبيق الشريعة والتركيز على دور الدين في الحياة العامة، أحد المكونات الجوهرية لخطاب الجماعة.
السياسة ودورها في فكر الجماعة:
منذ نشأتها، ربطت الجماعة بين الأيديولوجيا الدينية والنشاط السياسي، معتبره نفسها حركة سياسية،[22] هدفها الوصول إلى الحكم، على أساس أن الحكومة ركناً من أركان الإيمان الذي تؤمن به الجماعة.[23] فدعوة الجماعة مبنية أساساً على السياسة على اعتبار أنها جزء من الدين.[24]
وتهدف الجماعة إلى الوصول للحكم، وإن كانت لا تعبر عن ذلك صراحة مدعية أن هدفها إقامة النظام الإسلامي وتطبيق الشريعة، فاندمجت منذ عهد (البنا) ضمن آليات الوصول إلى الحكم في الدولة، وعملت على أن تكون جزء من الكيان السياسي المصري. فجاء (البنا) لفرض زعامته على مصر، وتصدت الجماعة لحزب الوفد وحاولت الإحلال مكانه،[25] ودعا (البنا) القيادات المصرية لأن تتخذ من تعاليم الإسلام منهجاً،[26] معلناً الحرب على كل زعيم أو رئيس حزب أو هيئة لا تعمل على نصرة الإسلام، ولا تسير في الطريق لاستعادة حكمه.[27]
وتعتمد الجماعة الوسائل السلمية في نشر دعوتها وتحقيق أهدافها، ولا تفكر في الثورة ولا تعتمد عليها ولا تؤمن بنفع نتائجها. إلا أن غاية الجماعة يصعب تحقيقها في دول غير إسلامية ذات أطر تشريعية علمانية، إلا عبر الوصول إلى السلطة وتغيير النظم القائمة والأطر التنظيمية الحاكمة فيها.
حرصت الجماعة في مصر على التعايش مع النظم السياسية والمدنية القائمة، والتزمت بالعمل ضمن إطارها وحدودها وشرعيتها، بهدف الوصول إلى الحكم، وعلى الرغم من تأكيد الجماعة على أنها لا تسعى إلى الحكم، إلا إن جاء عن طريق صناديق الاقتراع،[28] إلا أن الاتجاه السائد في أوساط الجماعة يتبنى المشاركة السياسية، التي أوصى بها مؤتمرها السادس عام 1941. وتبقى أهمية ومكانة أفكار (سيد قطب) والتي تقف موقف النقيض من المشاركة السياسية رائجة في أوساط الجماعات الاسلامية المتشددة. ولا تعتبر جماعة الإخوان النظم السياسية القائمة كافرة يجب مقاطعتها أو قلبها بالقوة، على الرغم من أنها نظم لا تعمل بالشريعة الإسلامية، بينما ترفض أفكار (سيد قطب) المشاركة السياسية في ظل أنظمة حكم لا تحكم بالشريعة الإسلامية. فإقامة نظام إسلامي عند (قطب) يقتضي إزالة النظام غير الإسلامي القائم.[29]
شارك (البنا) في الانتخابات النيابية المصرية عام 1942، في ظل الحكم الملكي القائم على التعددية الحزبية، كما شاركت الجماعة في الانتخابات التي تلتها دون نجاح أي من مرشحيها، وكان من المقرر مشاركة الجماعة في انتخابات عام 1950، إلا أن اغتيال (البنا) عام 1949 حال دون ذلك.[30] ووافقت الجماعة على المشاركة في الوزارة بعد الثورة عام 1952، إلا أن نظام (عبد الناصر) لم يقبل بالمرشحين الذين عرضهم مكتب إرشاد الجماعة، فعرض النظام على الشيخ (أحمد حسن الباقوري) عضو مكتب الإرشاد وزارة الأوقاف، فاشترطت الجماعة استقالته منها بعد قبوله المنصب.
ورغم اختيار جماعة الاخوان لـ (حسن الهضيبي)، ذي التوجه المعتدل ومن خارج الجماعة، خلفاً للبنا بعد اغتياله، ورفضها أفكار (قطب) صراحة، فانتقدها (الهضيبي) في كتابه "دعاةً لا قضاةً"، إلا أن موقف الجماعة المعارض لسياسات (عبد الناصر)، والاتهامات الموجهه لجهازها الخاص بالعنف، وخوف نظام (عبد الناصر) من تزايد شعبيتها ومكانتها، فقدرت أعداد منتسبيها بنصف مليون قبل اغتيال (البنا)،[31] دفع النظام لتحجيم نفوذها بحلها والضغط العنيف عليها، فتحولت الجماعة إلى العمل السري.
جاءت عودة الجماعة إلى المشاركة في الحياة السياسية المصرية في عهد الرئيس (السادات)، بعد أن أفسح المجال أمام التعددية الحزبية المقيدة والحياة الديمقراطية الشكلية عام 1976، دون إعطاء وضع قانوني محدد للجماعة.[32] فدشنت هذه الحقبة مشاركة الجماعة الفعلية في البرلمان عامي 1976 و1979، وأسهمت الجماعة في انجاز تعديل دستوري يجعل الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع في مصر عام 1979، بعد أن كانت مصدر رئيسي للتشريع، وتشكيل لجان لتقنين ومراجعة القوانين على حسب مقتضيات الشريعة. إلا أن تلك التعديلات لم يكن بمعزل عن تأييد الرئيس (السادات)، الذي كان يريد أن يظهر بمظهر "الرئيس المؤمن".
شهدت حقبة الرئيس (السادات) بروز الجيل الثاني من قيادات الجماعة، الذي شكل انعطافة فكرية وسلوكية في حياتها، وبداية عمل الجماعة داخل المؤسسات المجتمعية خصوصاً الجامعات، واصدار مجلة الدعوة.[33] وعارضت الجماعة ممارسات النظام، دون عنف أو تحدٍ سافر،[34] إلا أن التصادم بين السلطة والجماعة جاء إثر معارضة الجماعة لقانون الأحوال الشخصية والإجراءات الاقتصادية برفع الدعم عن السلع الغذائية، التي أنتجت أزمة عام 1977، فأغلقت مجلة الدعوة عام 1981، واعتبرت الجماعة غير شرعية وغير موجودة رسمياً، بالعودة إلى قرار مجلس الثورة بحل الأحزاب.
وفي عهد الرئيس (مبارك)، وفي أعقاب نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، تطورت مجالات المشاركة السياسية لدى الجماعة، وقرر أعضاؤها خوض الانتخابات البرلمانية رغم إصرار النظام على منعها من تأسيس حزبها سياسي. فانخرطت في العمل من داخل الاتحادات العمالية والمنظمات المهنية والمؤسسات التعليمية، مستكملة ما بدأته في عهد (السادات)، سيطرت على نقابة المحامين عام 1992. وأوحت انجازاتها الاجتماعية بأنها استطاعت أن تبني دولة داخل الدولة المصرية، وبرز ذلك جلياً في أدائها خلال أحداث الزلزال الذي ضرب مصر عام 1992، حيث تفوق أداء الجماعة على أداء الدولة نفسها في تجاوز الازمة. واستطاعت أن تصبح الجماعة القوة المعارضة الأولى في مصر، فصعود إسلاميين إلى سدة الحكم في إيران، جعل إمكانية قيام حكم إسلامي حقيقة ممكنة.
اهتمت الجماعة بتأسيس حزبها السياسي منذ عودتها إلى الحياة السياسية في عهد الرئيس (السادات)، لم تدخر الجماعة جهداً إلا بذلته في سبيل تأسيسه،[35] على الرغم من عدم قبول الجماعة فكرة إنشاء حزب سياسي خلال السنوات الأولى من تأسيسها. فرأت الجماعة أن الأحزاب أدوات يستخدمها الغرب لتقسيم الأمة الإسلامية، وأنها ليست حزب، تؤيد أو تعارض تبعاً لمصلحة حزبية أو سعياً وراء مصلحة شخصية.[36] ولم يبن (البنا) موقفه من الأحزاب على أساس شرعي،[37] بل رفضها استناداً إلى التجربة السياسية المصرية، وفي إطار سماح الدولة المصرية للجماعة بالمشاركة السياسية، دون حاجتها إلى تشكيل حزب.
شكل توجه الجماعة نحو تشكيل حزب سياسي خياراً استراتيجياً، فدعا (عمر التلمساني) المرشد الثالث للجماعة إلى ضرورة تفكير الجماعة في قناة شرعية تستطيع عن طريقها الوصول إلى البرلمان لنشر دعوتها.[38] وصرح (محمد حامد أبو النصر) مرشد الجماعة الرابع بأن الجماعة قررت تكوين حزب سياسي للعمل في الميدان السياسي من خلال قوانين الدولة،[39] لإعادة إحيائها بعد التوصية بحلها عام 1954.[40] كما أيد (مصطفى مشهور) مرشد الجماعة الخامس في التسعينات من القرن الماضي التعددية الحزبية مؤكداً أن الإسلام معها.[41]
وفي اطار سعي الجماعة الفعلي إلى تكوين حزب سياسي، أعدت الجماعة مسودتين لبرنامجين حزبيين، بتكليف من (التلمساني) عام 1984، إلا أن عدم ملائمة الاوضاع السياسية في ذلك الوقت، لم تسمح للجماعة بعرضها على لجنة الاحزاب.[42] دفعت الجماعة بدعوة قضائية لالغاء قرار مجلس قيادة الثورة بحل الجماعة، واعلنت عام 1986 عن تأسيس حزب الشورى، كأول محاولةا معلنة عن حزبها دون أن تنجح. وبعد فشل محاولات الجماعة كذلك في طرح حزبها عام 1990، طرحت فكرة إنشاء حزب الوسط عام 1995، في إطار سياسي مدني ذي مرجعية دينية، ثم طرحته بإسم حزب الوسط المصري عام 1998، وحزب الوسط الجديد عام 2004، الا ان جميع محاولات الجماعة لم تنجح في ترخيص حزبها. ومنذ اعلان الجماعة عن حزب الوسط عام 1995، تقدم الجماعة أحزابها في اطار سياسي مدني ذي مرجعية إسلامية، كما جاء خلال عامي 2005 و2007.
بعد الثورة نجحت الجماعة في إنشاء حزب الحرية والعدالة حاسمة حالة من الجدل سادت بين محافظي واصلاحي الجماعة حول الشكل النهائي الذي ينبغي أن تكون عليه الجماعة في حال حصولها على ترخيص بتأسيس حزب سياسي. ونزع المحافظون نحو بقاء الحزب جزء من الجماعة، رافضين أن يكون ذلك بشكل مؤقت إلى حين إصلاح الحياة الديمقراطية في مصر، بينما مال الاصلاحيون نحو تحول الجماعة كلياً إلى حزب سياسي، مع وجود جمعية أهلية تمارس دوراً اجتماعياً واقتصادياً، لا علاقة لها بالحزب.[43] وبقيت مشكلة الجماعة قائمة لأن الحزب بقي أسيراً للطابع الديني الدعوى، الأمر الذي كبل خطابه وأدائه السياسي والفكري في منافسة الاحزاب الأخرى.
إن قبول الجماعة مبدأ المشاركة السياسية في إطار نظم غير إسلامية، وفي ظل هدفها المتمثل في الوصول إلى السلطة، وتصريحاتها باستبعاد استخدام القوة لتحقيق أهدافها، يفسر سلوكها البراغماتي وخطابها المرن، والذي يتصف بالقدرة على استيعاب مفاهيم النظم غير الإسلامية، ومحاولة حصر خلافاتها مع تلك النظم في أضيق الحدود، وذلك منذ عهد (البنا).
مارس (البنا) السياسة بتوجه براغماتي، فتنقل في تحالفاته السياسية ما بين البريطانيين والملك وحزب الوفد، وقبل بالمساومات والثمن السياسي عندما تراجع عن تقدمه لمنصب نائب رئيس الوزراء في بداية حقبة الأربعينات من القرن الماضي، بإيعاز من (النحاس باشا) رئيس الوزراء المصري، مقابل مساحة أوسع من الحرية للجماعة تمنحها لها الحكومة المصرية.[44] وغلبت الاعتبارات السياسية في علاقة الجماعة بالرئيس (السادات)، فتحالفت معه، رغم علمها بتقربه منها لمواجهة التيار الناصري واليساري المعارضان لحكمه، ووقفت موقفاً سلبياً من جماعة (شكري مصطفى) التي كفرت المجتمع والنظام، ودعت إلى إسقاطه بالقوة.
وفي عهد نظام (مبارك)، لم تنخرط الجماعة ضمن أجندة ثقافية ودينية مثيرة للخلاف، وانتقدت أداء الحكومة بشكل معتدل، وركزت على الإصلاح واستقلال القضاء. وفي معظم الانتخابات البرلمانية شاركت بطريقة لا تثير الشكوك بتهديد للسلطة، من خلال المنافسة على عدد محدود من المقاعد، فمثل جميع مرشحي الجماعة، في انتخابات عام 2005، ما يعادل ثلث مقاعد المجلس فقط. وعلى الرغم من القيود الصارمة التي وضعها نظام (مبارك) لمكافحة النفوذ المتنامي للجماعة، بعد فوزها بثمانية وثمانين مقعداً خلال الانتخابات البرلمانية عام 2005، بقي رد فعلها في حدود ضبط النفس.
اجرى نظام الرئيس (مبارك) تعديلات دستورية تمحورت حول تعليق النشاط السياسي للجماعة، سواء عبر حظر المرجعية الدينية للأحزاب، أو عبر ترجيح نظام القوائم الحزبية على النظام الفردي في الانتخابات النيابية عام 2007، ووقف النظام حائلاً أمام فوز أي من مرشحي الجماعة في انتخابات مجلس الشورى عام 2007، كما رفض تسجيل أي من مرشحيها في انتخابات البلدية عام 2008. فشكلت تجربة الجماعة القاسية مع النظام خصوصاً في عهد الرئيس (عبد الناصر)، حاجزاً يقوض حدود مشاركة الجماعة السياسية، وبقيت خشيتها من بطش النظام عاملاً حاضراً في حسابات قيادات الجماعة إلى ما قبل ثورة يناير.
قامت الجماعة بتحولات تكتيكية عديدة، استجابة للتغيرات في قواعد اللعبة السياسية، فتحالفت مع أحزاب سياسية علمانية وليبرالية، لخوض غمار الانتخابات البرلمانية ضمن أطرها،[45] وقاطعت الانتخابات بالتحالف مع القوى السياسية الاخرى عام 1990، وخاضت الانتخابات منفردة عندما نافس مرشحوها في انتخابات عام 1995 كمستقلين، وطرحت قوائم طموحة لمرشحيها عندما تقدمت بمائة وواحد وستين مرشحاً في انتخابات عام 2005. وتبنت الجماعة مفردات سياسية جديدة نسبياً، كالديمقراطية والمجتمع المدني والمواطنة، وطورت أجندتها السياسية مطالبة بالإصلاح السياسي ومراقبة انتهاكات حقوق الإنسان، أسوة بالقوى السياسية الاخرى. يأتي ذلك في إطار الحنكة السياسية التي اكتسبتها الجماعة عبر تجربتها السياسية الطويلة، ويشكل ذلك نوعاً من التكييف الإسلامي، مع مقتضيات العصر، حيث لا يرغب الإسلاميون في وضع أنفسهم في اتجاه مخالف لمفاهيم باتت تشكل أسس لأنظمة الحكم في العالم.
تقر الجماعة بأنها ستستخدم القوة العملية، عندما لا تجد غيرها، وحيث تثق بأنها قد استكملت عدة الإيمان والوحدة.[46] وتعتبر الجماعة أن القوة ضرورة ويحق لها أن تكون قوية، فالقوة تعكس شعار الإسلام في كل نظمه وتشريعاته، وترى أن من حقها اللجوء إلى القوة في حال منعت من نشر دعوتها بالطرق السلمية.[47] فعلى الرغم من اعتماد الجماعة على اتجاهين لأحداث التغيير وتحقيق أهدافها، يأتي الأول منها باستخدام القوة ضد المحتل لتحقيق التحرر، بينما يقر الثاني باستخدام الوسائل السلمية، واعتماد خطة طويلة الأجل لإعادة التربية والتنشئة السياسية في المجتمع المصري وفق المبادئ الإسلامية،[48] إلا أن الجماعة لم تنبذ أو تستبعد استخدام القوة بالمطلق في تحقيق الاتجاه الثاني. وقد أنشأت الجماعة جهازها السري منذ عهد (البنا) الذي اتهم بارتكاب العديد من جرائم الاغتيال، واستخدام العنف داخل المجتمع المصري، رغم تبرؤ الجماعة رسمياً من ممارساته، واعتقاد البعض بأنه قد خرج عن سيطرة الجماعة.
ويبقى رفض الجماعة لأفكار (قطب) دون أن تتبرأ منه كقائد ومنظر للجماعة، بمثابة مؤشر إضافي على عدم استبعاد لجوء جماعة الإخوان للقوة لتحقيق أهدافها السياسية، ويفسر ذلك قلق البعض من إمكانية لجوء الجماعة للقوة، إن توفرت لها الظروف والإمكانات. وتفيد الشواهد الأولية وتصريحات قيادات الجماعة بعد عزل الجيش للرئيس (محمد مرسي)، وما تبعها من ممارسات عنيفة ضد معتصمي الجماعة وقياداتها، بأن العنف واستخدام القوة أحد أدوات الجماعة لتحقيق أهدافها السياسية في المجتمع.
المجتمع والدولة والنظام السياسي في فكر الجماعة:
رغم أن جماعة الاخوان المسلمين لم تشترط الوصول إلى الحكم لتحقيق الإصلاح السياسي بنفسها وفق رؤيتها الدينية، إلا أنها سعت نحو تغيير الإطار الدستوري بما يتوافق مع رؤيتها، وشاركت في العملية السياسية التي تسمح بوصولها إلى الحكم قبل تحقيقها للأسلمة التدريجية للمجتمع، واللازمة لاصلاح النظام السياسي، حسب رؤية الجماعة. كما قدمت جماعة الاخوان تصوراً عاماً للمجتمع الذي تسعى إلى ارسائه، وحددت اطاراً عاماً يحكم الدولة التي تتطلع إلى إقامتها، ووضعت محددات للنظام السياسي الذي يمكن أن تعمل في ظله، الامر الذي أنتج حالة قلق من إمكانية فرض الجماعة لرؤيتها الفكرية على المجتمع المصري برمته، في حالة وصولها الى الحكم.
منذ قيامها رفضت الجماعة المرجعية السياسية القائمة على أساس الدولة القومية الوطنية، المستندة إلى النموذج الغربي، مدعية أن تلك المرجعية قد تجاهلت الحضارة الإسلامية والتاريخ والالتزامات الدينية والهوية الثقافية والوطنية، بما يعرقل النهضة والاستقلال.[49] وتسعى الجماعة إلى إقامة الدين وتحقيق الأغراض التي جاء من أجلها الإسلام، وما يتصل بها من أسلمة للمجتمع،[50] وقيام الدولة الإسلامية التي تنفذ أحكام الإسلام وتعاليمه عملياً، وتحرسها من الداخل، وتعمل على نشرها وتبليغها في الخارج.[51]
اعتمدت الجماعة المنهج القائم على إصلاح المجتمع أولاً، لإصلاح النظام السياسي بعد ذلك بقوة المجتمع.[52] فدعوة جماعة الاخوان في مصر تقوم على تبني نظرية التربية الشاملة للفرد،[53]سعياً إلى تغيير المجتمع، باستخدام جميع الوسائل بالدعوة والنشر والاذاعة والتربية والتوجيه،[54] تلحقها مرحلة النضال الدستوري، بما يضمن مناصرة وانحياز القوة التنفيذية.[55] يأتي ذلك عبر إستراتيجية تمر بثلاث مراحل، تمهد مرحلتي نشر وتعميم الفكر للناس، والتركز على انتقاء واعداد الأنصار، إلى مرحلة التنفيذ.[56] إن ذلك يفسر اهتمام الجماعة بالانتاج الثقافي، وتأييدها لسيطرة الدولة على وسائل الاعلام القومية،[57] واهتمامها بانشاء محطات إذاعية وتلفزيونية،[58] تتوافق رسائلها مع قيم ومبادئ الجماعة. وتعتقد الجماعة أن ذلك سيضمن في النهاية خضوع المجتمع لنوع من أنواع الضبط الذاتي، وأن المجتمع المسلم سوف يرغب تلقائياً في انتخاب قادة إسلاميين.
تلغي مشاركة الجماعة في الانتخابات البرلمانية، والتي بدأت كسياسة منذ عهد (البنا)، المراحل التدريجية التي وضعتها كطريق لأسلمه المجتمع أولاً، بهدف الوصول إلى السلطة بعد ذلك. فالانتخابات قد تأتي بالجماعة إلى السلطة قبل اكتمال أسلمه المجتمع، وهو ما حدث بالفعل خلال الانتخابات البرلمانية عام 2011 والرئاسية خلال عام 2012، ووضع الجماعة أمام مفترق خطير.
فجماعة الاخوان انتخبت ديمقراطياً بناء على برنامجها الاصلاحي، وفي ظل مجتمع لا يؤمن غالبيته بالمبادئ الدينية للجماعة، وفي ظل سيادة حالة من الشك في امكانية فرضها لرؤيتها الدينية على المجتمع والدولة المصرية. أسهم أداء الجماعة في الحكم، خلال تجربتها القصيرة، في عدم نجاحها، فجاء سعيها لفرض واقع دستوري ينسجم مع فكرها، ومحاولاتها تحييد دور القضاء والجيش لترسيخ حكمها، وفشلها في اختبار الشراكة مع القوى السياسية الاخرى، بما فيها حزب النور السلفي، ليعكس عدم نضج الجماعة السياسي وهي في سدة الحكم، مقارنة مع أدائها كمعارضة، وعدم انسجام لغة خطابها المرن والاصلاحي مع ممارساتها التي انسجمت بوضوح مع فكرها. إن تجربة جماعة الاخوان في الحكم، سمحت بالحكم سلبياً على مستقبل الاسلام السياسي في الحكم عموماً.
بقي مفهوم الدولة الإسلامية التي تسعى الى تحقيقها الجماعة ثابتاً، رغم تطور لغة خطابها تناسباً مع تطور الواقع السياسي، ليظل تطور شكلي وليس تغيير في العمق أو المضمون. وبالرغم من دعوة الجماعة إلى دولة مدنية ديمقراطية ذات مرجعية إسلامية، تبتعد عن مفهوم السلطة الدينية الثيوقراطية، إلا أنها سعت بالفعل إلى تكريس الدولة الدينية، طوال مراحل تطورها، من خلال الأوضاع القائمة. فبحثت في إطار النظام السياسي والدستوري عن نقاط الالتقاء مع مشروعها الإسلامي، مستغلة الثغرات البنيوية والمساحات الموجودة فيه، التي تسمح بتعديل توجهات الحكم.[59]
رأى (البنا) أن الحكم وبناء الدولة هو من الأصول والعقائد، وليس من الفروع، والخلافة هي أصل الدين، ورمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين الأمم الإسلامية.[60] وتعتقد الجماعة أن الدولة الإسلامية، يمكن أن تقوم بشكل تدريجي، وتبدأ بجزء من الوطن الإسلامي، ثم تمتد بعد ذلك إلى كافة الأجزاء، دون حدود، فتحدث (البنا) عن مصر وسوريا والعراق والحجاز واليمن وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش وكل شبر من أرض فيها مسلم يقول لا اله إلا الله.[61]
ودعا (البنا) إلى دولة إسلامية،[62] تقوم على أساس الدعوة، منفصلة عن نظام الحكم، فلا تشكل إدارة أو حكومة،[63] تستند إلى التجربة التاريخية الممثلة في حكم الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم من حكام المسلمين.[64] واعتبرت الجماعة أن الدولة يمكن إصلاحها وتعديل مسارها بإصلاح النظام السياسي الحاكم وتغيير التوجهات السياسية فيه.[65] وانتقد (البنا) سياسة تركيا بعد ارساء (أتاتورك) اطار علماني للدولة، وحكومة لا دينية.[66]
وترفض جماعة الاخوان حكم رجال الدين في الإسلام، أو تمتعهم بوضع أو سلطة رسمية، على أساس عدم وجود وسيط بين الإنسان والله،[67] وتؤكد على ضرورة تولي المواطنين المنتخبون الأدوار السياسية،[68] وتولي الوظائف العامة على أساس الكفاءة والخبرة الفنية المتخصصة.[69] وذهب بعض من قاداتها إلى ما هو أبعد من ذلك، بإمكانية تولي غير مسلم للرئاسة إن قضت بذلك صناديق الاقتراع.[70] وفي نفس الوقت، تؤكد الجماعة على أن الشريعة وليس الدستور، هي أساس التشريع،[71] وأنها ملزمة للنواب المنتخبين، مستندة في ذلك على نص المادة الثانية من الدستور، كما تدعو إلى ضرورة التمسك بالمرجعية الإسلامية، وتطبيق شرع الله،[72] وتتمسك بشعارها الإسلام هو الحل الذي يلغي عمليات المساومة السياسية والاجتماعية، التي تعد أحد ملامح الديمقراطية.
فدعا (البنا) إلى إصلاح القانون حتى يتوافق مع التشريع الإسلامي، قاصداً في الجنايات والحدود،[73] وتميل الجماعة إلى جعل الفتوى جزء من العملية التشريعية، وفي حال استندت العملية التشريعية إلى الفتوى، فإن السياسات العامة تصبح مجالاً إسلامياً خالصاً، ومقيدة للحريات عموماً.[74] كما تدعو الجماعة إلى ضرورة عودة السلطة التشريعية إلى رأي هيئة منتخبة من كبار علماء الدين، مستقلة عن السلطة التنفيذية، يكون لها الكلمة الفصل في جميع القضايا التي تقدم الشريعة الإسلامية أدلة عليها.[75] ولا تقوم تلك الهيئة على أساس مبدأ المساواة والمواطنة، في ضوء غياب تمثيل المرأة وغير المسلمين فيها، بما يقدم دليلاً على التناقض في بيانات الجماعة ومواقفها حول غير المسلمين: "لنا مالهم من حقوق وعلينا ما عليهم من واجبات".[76]
وترى الجماعة أن الدولة مسئولة عن حماية وحراسة الدين والدولة الإسلامية، وغير المسلم في عقيدته وعبادته ودور عبادته، والتأكد من عدم وجود ما يعترض الممارسة الإسلامية، ويقوم بتنفيذ تلك الوظائف أعلى سلطة في النظام السياسي القائم، وغير المسلم معفى من توليها استناداً على الشريعة الإسلامية، التي لا تلزمه بواجب يتعارض مع عقيدته. فالحرب باتت، حسب رؤية الجماعة، تمثل قرار شرعي يفتقد البعد الوطني، لتصبح معها عملية تجنيد غير المسلم في الجيش غير مقبولة، مما يفتح المجال لعودة ضريبة الحماية، وفرض الجزية على غير المسلم، وهي قضية أثارها بالفعل (مصطفى مشهور) مرشد الجماعة السادس.[77] ويبدو أن رأي (البنا) كان أكثر انفتاحاً من ما طرحته أفكار الجماعة بعد ذلك، عندما اعتبر غير المسلمين من المصريين شركاء في الدفاع عن مصر.
وتثبت جميع الوثائق التي أصدرتها الجماعة بدأ بوثيقة المرأة والمواطنة الصادرة عام 1994 وانتهاء ببرنامج حزب الحرية والعدالة عام 2011، سيطرة الطابع الديني عليها جميعاً، فاعتادت الجماعة إضافة تحفظها الرئيس في بياناتها، وهو "ما يتفق مع المبادئ الإسلامية" أو " بما لا يتعارض مع الشريعة"، الامر الذي يضع موقف الجماعة عموماً في العلاقة بين الدين والدولة في إطار ديني. ولا تخفي تصريحات قيادات الجماعة هذه الحقيقة، فقد صرح (محمد بديع) المرشد الثامن والحالي للجماعة بعد عدة أشهر من الثورة، أن الجماعة اقتربت من تحقيق غايتها العظمى التي حددها مؤسسها، وذلك بإقامة نظام حكم عادل رشيد بكل مؤسساته ومقوماته يتضمن حكومة ثم خلافة راشدة، وأستاذية العالم.[78]
تعتبر الحكومة في فكر الجماعة ركناً من أركان الدين، والتي ترى الاسلام حكماً وتنفيذاً، وتشريعاً وتعليماً، وقانوناً وقضاء،[79] فالعبرة عند الجماعة تكون بتطبيق المنهاج والنظام، وليس بمن يحكم،[80] مؤكدة أنه لا وجود للحكومة الدينية في الإسلام ولا في فكر الجماعة.[81] فالجماعة لا تشترط نموذجاً للحكم الديمقراطي أو شكلاً للنظام السياسي أو لطبيعة الحكام أو لتفاصيل الدساتير، طالما بقيت محكومة ضمن الإطار الإسلامي، فالقانون حسب رؤية الجماعة أداة اجتهادية مرنة للضبط الاجتماعي، على أن يتسق مع الدستور،[82] والدستور محكوم بالشريعة.
ويقوم النظام السياسي الإسلامي في فكر الجماعة على قواعد محددة، تشكل الهيكل الأساسي لنظام الحكم في الإسلام،[83] وتقوم تلك القواعد على مسئولية الحكام ووحدة الأمة وإرادتها، فالحكم تعاقد بين الأمة والحاكم على رعاية مصالح العامة. وتعتمد شرعية الحكم على رضا الشعب، ضمن حقوق وواجبات ينظمها الدستور والقانون. والحكام بشر مسئولون بين يدي الله وعند الناس، لا يملكون سلطة دينية، ويحاسبوا على أدائهم،[84] وتستمد شرعيتهم من قدرتهم على توفير المساحة التي تسمح بحرية التعبير والمشاركة في الشئون العامة،[85] ويمكنهم تفويض غيرهم لمباشرة سلطتهم.[86] ولا تخرج رؤية الجماعة للنظام السياسي الإسلامي عن تفسير نظرية العقد الاجتماعي.
وتدعو الجماعة إلى إقامة نظام سياسي يضمن تحقيق مبدأ التكريم الالهي للإنسان، ويحفظ حقوقه وحرياته، ويوجه الجهود لبناء مؤسسات الحكم باستقامة وفاعلية، ليضمن النزاهة والحرية لعمليات انتخاب الحاكمين وحسن مراقبتهم خلال الفترة المؤقتة لحكمهم، اعتماداً على أسس دستورية.[87] وسعت الجماعة إلى إصلاح الوضع الدستوري والقانوني،[88] عبر الدعوة إلى استكمال تقنين أحكام الشريعة الإسلامية، والسلطة القضائية عبر الدعوة إلى إنشاء محكمة دستورية عليا،[89] كما دعت إلى ضرورة المشاركة في الحياة النيابية وإجراء انتخابات تشريعية تشرف عليها السلطة القضائية إشرافاً كاملاً.[90]
وتقر الجماعة بحق الأمة في مراقبة الحاكم والإشارة عليه إعمالا بمبدأ الشورى الملزمة،[91] التي تعتبر أصل ثابت في القانون الأساسي للجماعة.[92] ويرى (مهدي عاكف) مرشد الجماعة السابع أن شكل الحكم سيعتمد على الطريقة التي ستطبق بها الشورى، وأن نظام الشورى يتقاطع مع النظام الديمقراطي من حيث وضع شئون الدولة والحكم في يد الأغلبية، دون الإضرار بحقوق الأقليات في التعبير عن آرائها والدفاع عن مصالحها.[93]
وتدعو الجماعة إلى إعمال مبدأ الفصل بين السلطات وتوزيع وظائف الدولة بينها، لأنها ترى أن تجمع السلطات وتركزها في يد فرد أو جهة يشكل أخطر مداخل الاستبداد الذي يفسد الدولة والمجتمع معاً، ويهز بنيانها ويقوض دعائمها.[94] وتؤكد الجماعة على مبدأ التداول السلمي للسلطة من خلال الاقتراع الدوري.[95] وتذهب مقاربة الجماعة إلى ضرورة اقناع الناخبين بسياستها، فأن لم تنجح الجماعة في ذلك، عليها أن تواصل السعي للوصول إلى القيادة السياسية عبر اقتراع دوري،[96]يعكس الارادة الشعبية.
وتقبل بمبدأ الانتخاب الحر، على أساس أنه يؤدي إلى اختيار أهل الحل والعقد، في ضوء تحديد صفاتهم. وتحاول الجماعة الخلط بين انتخاب أهل الحل والعقد الذين ينتخبون على أساس مركزهم الديني، ليشكلوا مرجعية فقهية ودينية، وبين أعضاء مجلس الشعب الذين يتم انتخابهم على أساس مركزهم الاجتماعي والسياسي، ليشكلوا أداة رقابية على السلطة التنفيذية مصدراً تشريعياً، لكن ليس بالضرورة على أساس الشريعة الاسلامية. وترى الجماعة أن الإسلام لا يشترط استبانه رأي أفرادها جميعاً في كل نازلة، وإنما يمكن الاكتفاء بأهل الحل والعقد.[97]
وتدعو الجماعة إلى اقامة نظام دستوري برلماني جمهوري ديمقراطي، وترى اتساق قواعد النظام الإسلامي مع النظام النيابي،[98]وخاضت الانتخابات البرلمانية والرئاسية بعد ثورة عام 2011، في إطار نظام مختلط يجمع بين النظام الرئاسي والبرلماني، شريطة اقرار دساتيرها بسيادة الشريعة الإسلامية.[99] فجماعة الاخوان المسلمين لا تمتلك نموذجاً سياسي مرجعي، ولا تسعى لاقراره، وتعمل ضمن النماذج السياسية غير الاسلامية الموجودة، الامر الذي يفسر تحرر خطابها السياسي، وامكانية استعارته من المفاهيم الديمقراطية السائدة.
المواطنة في فكر الجماعة:
منذ بداية عهدها، خلطت الجماعة بين مفهوم القومية المصرية وبين انتماء المصريين إلى الأمة الإسلامية، فاعتبرت أن للمصرية والقومية منزلتها وحقها في الكفاح والنضال،[100] إلا أنها سعت إلى استبدال مفهوم القومية المصرية بمفهوم القومية الإسلامية. وترى الجماعة أن مصر بلد مؤمن لا يصلح إلا بالإسلام، والإيمان بالمصرية يتفق مع ما يجب أن يدعو إليه رجل ينادي بالإسلام.[101] وحسب (البنا) إن مصر جزء من الوطن الإسلامي العام، وحين تعمل الجماعة لمصر تعمل للإسلام والعروبة، فالعرب هم أمة الإسلام، ولن ينهض الإسلام إلا بإجماع كلمة الشعوب العربية. واعتبرت الجماعة أن تحرير الوطن العربي الإسلامي من كل سيطرة أجنبية وقيام دولة إسلامية حرة، من بين أهدافها السياسية.[102]
جاء تطور خطاب الجماعة تدريجياً باتجاه الدعوة إلى الدولة المدنية، وقبول فكرة المواطنة، فأقرت المساوة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين، دون تميز بين جنس أو عرق أو ديانة، مع خصوصية الأحوال الشخصية، كل حسب شريعته. كما دعت إلى صيانة الوحدة الوطنية المصرية، بالتوافق مع هوية وثقافة الشعب المصري.[103] وبرز ذلك الانفتاح في برامج وبيانات عديدة للجماعة خصوصاً تلك التي صدرت خلال العقد الأخير، إلا أن ممارسات الجماعة بقيت متناقضة مع خطابها، ولم يغير وصولها إلى الحكم من ذلك التناقض.
ورغم اعتبار الجماعة أن لليهود والمسيحيين ما للمسلمين من حقوق، إلا أنها تدعو إلى الحكم بما يستند إلى الشريعة الإسلامية كأمر ملزم للجميع، باستثناء المجال الخاص بالأحوال الشخصية وحرية العبادة.[104] ولا تقبل الجماعة بولاية المرأة وغير المسلمين في الدولة الإسلامية، وترفض أن تكون مناهجهم حاكمة فيها، كما ترفض الاعتراف بالبهائية كدين أو عقيدة، الأمر الذي اعتبره (الغنوشي) أحد قيادات الجماعة في تونس، ازدواجية في المواقف، تتناقض مع تحالف الجماعة مع العلمانيين.[105]
موقف الجماعة من الآخر:
بدأ التحول نحو قبول الجماعة بالتعددية يفرض نفسه في العقد السابع من القرن الماضي، عندما وجدت الجماعة ومراجعها الفكرية أن مدخلها إلى الحركة السياسية محكوم بقوانين وضعية من خلال الأحزاب والقبول بالتعددية الحزبية. ويعد القبول بالتعددية في الفكر السياسي الإسلامي، خطوة متقدمة في سبيل قبول الآخر، ويبرز قدراً من المرونة في التعامل معه، إلا أنه من الممكن أن يفهم أيضاً في إطار رغبة الجماعة في استغلال اللعبة الديمقراطية للوصول إلى الحكم.[106]
وقف (البنا) موقف الرافض والمدين للحزبية، ودعا للقضاء عليها في مصر، واستبدالها بنظام يوحد كلمة وجهود الامة حول منهج إسلامي بتكوين حزب واحد.[107] وهاجم (البنا) وجود الحزبية في البلاد الإسلامية على أساس أنها تضر بالوحدة وتخدم العدو.[108]وعززت أفكار)سيد قطب) مواقف الجماعة السلبية تجاه الأحزاب، فانسحب (قطب) من حزبي الوفد والسعديين،[109] وأفرزت نظرته تجاه الأحزاب الأخرى علاقة عداء معها، ازدادت حدتها بعد دعم الجماعة لقرار الضباط الأحرار بحل الأحزاب السياسية.
ورغم موقف (البنا) السلبي من التعددية الحزبية، إلا أن الجماعة في عهده قبلت بمبدأ الشراكة السياسية، إما في إطار رؤيتها لاتساع أفق العمل السياسي الإسلامي لتعددية في الحركات،[110] وإما تماشياً مع الواقع السياسي. فأظهر (البنا) موقفاً ايجابياً تجاه الجماعات الإسلامية الأخرى وتعايش مع الجمعية الشرعية.[111] في عام 1946، اشتركت الجماعة مع غالبية الهيئات الشعبية في مظاهرة كبيرة، حاصرت الحكومة على إثرها مقرات الجماعة، كما رفضت الجماعة بالاتفاق مع حزب مصر الفتاة الدستور. وفي عام 1952، ساندت الجماعة الثورة، وكانت الهيئة المدنية الوحيدة التي علمت مسبق