السيباط.. يطير الحمام يحُط الحمام
يامن نوباني
العصافير تحط على الأرض، تلتقط طعامها بحرية، وتطير فوق الأسقف القريبة، أربعة أطفال يلهون بالبنانير، فجأة يظهر طفل على زلاجة، مسرعا على بلاط السيباط، وكأنه يعرف أنه لن يصطدم بأحد، أو ببضاعة معروضة أمام المحال التجارية، المغلق نصفها. طفل لم يتعدَ العامين يمشي بترنح لمسافة 30 مترًا ثم يعود إلى عتبة بيته، وكأنه اعتاد يُسر الطريق.
امرأة تضع كرسيا وسط الطريق، تتبادل الحديث مع جارتها في محل مقابل لبيع الأجبان، في سوق كان في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي مكانًا تتزاحم فيه الأقدام وتتداخل فيه أصوات الباعة، قبل أن يتحول منذ سنين إلى أزقة يتراكض فيها أطفال الحارة، ومطار طيور، ومنبت عشب بين شقوق بلاطه وزوايا حجارته.
هل ينجح مهرجان السيباط الثاني الذي أعلن عنه مؤخرًا في إحياء أعرق أسواق جنين؟ من تبقوا في تلك البقعة المعتمة من المدينة الآخذة في التوسع والنشاط التجاري بعيدًا، يقولون: ياريت، ياريت يرجع السيباط.
نعود إلى ذات المكان بعد عام من محاولات إحيائه، والتي رأى فيها البعض أن مهرجان السيباط الأول أنعش المكان لفترة محدودة، لم تتجاوز أسبوعًا واحدًا، بينما راح البعض يتذمر من الإهمال الذي يبدو أنه أبديّ للمكان.
داخل أحد المحال التي ما زالت صامدة في وجه تغير الزمن هناك، أربعة شبان يلعبون الورق "الشدّة"، لثقة صاحبه أن لا بيع ولا شراء.
محل آخر يحتوي بضع ألحفة ووسائد، ما يزال يحتفظ بيافطته: "معرض مفروشات السلفيتي" بينما تتوقف بداخله حركة التنجيد، يضع أربع وسائد قرب الباب كتب عليهن: قباطية. يقول صاحب المعرض، سليمان السلفيتي، حتى ما نجهزه يتأخر الناس في القدوم لاستلامه، وكأنهم يملّون من القدوم إلى هنا.
ويتابع السلفيتي: هنا المحل المفتوح كالمحل المغلق، لا فرق! تحوّل السيباط إلى منطقة مخازن، المقتدرون فيه فتحوا محلات جديدة في أماكن حيوية من مدينة جنين، وجعلوا من محلاتهم هنا مخازن لبضاعتهم. لم نعد نرى غرباء. الساعة الآن الثالثة عصرًا، وأنتم أول وجه غريب أراه –يقول لمجموعة صحفيين-، نشعر وكأننا في ملجأ، قلت لكم في العام الماضي: مات السيباط ولن يحييه أحد.
يدوس عنكبوتا بقدمه، ويلاحق خيوطه المتشابكة، سألناه عن شقيقه صلاح، الذي يعمل معه في المحل، فأجاب: مَلّ و راح ينام، هكذا نمضي يومنا هنا إما أن نغلق ونغادر مع العصر أو ننام بداخل المحل. لا شيء يزعجنا أو يوقظنا من قيلولتنا، فالناس تعرف أن السيباط ينتهي حدّه مع محلات الحثناوي، ولا يتعمقون إلى داخل السوق.
لحظة إعداد التقرير تدخل حمامة من باب المحل، لتستقر بداخل طاقة (نافذة)، يلاحظ السفليتي اندهاشنا، فيقول: منذ سنين يعشش الحمام هنا، يبيض ويرقد ويفقس، يطير حمام ويأتي حمام.
جميلة، صاحبة محل ألبسة وخياطة، تعتمد في دفع إيجار محلها على عربة يبيع عليها أطفال من قرى جنين، فتقول: يأتي أطفال كل مساء ليبيتوا عربتهم داخل المحل، مقابل مبلغ 100 شيقل في الشهر، وأتكفل أنا بدفع الباقي من أجرة المحل وهو 150 شيقلا.
وتضيف: "يا ريت نلقى حدا نبيعه"، نمل عصرا ونغلق المحلات ونذهب الى النوم، تمر في بعض الأحيان عشرة أيام حتى نبيع بعشرة شواقل، حتى حين نبيع بمبلغ كبير –تتبع مصطلح كبير بابتسامة سخرية- فإنه يكون 20 شيقلا. نحن هنا نبيع بالصدفة.
تتدخل جارتها صاحبة محل لبيع الحليب ومشتقاته، فتقول: دائما ممنوع التجول في السيباط.
هكذا أصبح سوق السيباط، الذي كان يلبي قبل أربعين عاما جميع احتياجات التجار، لم يعد يمر منه اليوم متبضعون.
سيباط اليوم نفس الوجوه، تفتح صباحا، تمل فترة الظهيرة، وتغلق عصرا. طيور هادئة البال فوق الأسقف وأطفال يمارسون جميع أنواع اللعب فوق بلاط لا يمر منه رواد وغرباء.