نور أسفل شِق الباب
رشا حرز الله
ابتسمتُ.. عندما داعبتني طفلتي نور التي ألصقت جسدها ورأسها في الأرض، وراحت تنظر إلي من أسفل شق باب غرفتها، ربما هذا الشق من ضمن الألعاب المسلية لها، لكنه كان بالنسبة لي ذات يوم، النور الوحيد الذي يوصلني مع العالم الخارجي.
في مكان آخر، عبر شق مشابه رصدت لشهور عدّة، الأحذية العسكرية، "تروح" و"تجيء" بين ممرات سجن رام الله عام 1985، واسترقت من خلاله السمع للأحاديث التي يتداولها جنود الاحتلال في الخارج، لكنني وفي محطات كثيرة، تمنيت أن لا يكون الشق موجودا، عندما يصلني عبره صوت المشبوحين والمعذبين في التحقيق.
أدخلت للمرة الأولى للزنزانة، كنت على قدر كبير من الإعياء بعد جولة طويلة من الشبح والضرب، لم أحلم وقتها سوى بساعة نوم واحدة، أردت الاستلقاء على الفرشة الوحيدة التي لا ترتفع عن الأرض سوى بضع سنتيمترات، وجدتها مبتلة بالماء، أمسكتها من طرفها لأعرف مصدر البلل، لكنني تلثمت بقميصي تجنبا للرائحة الكريهة.
ضربت الباب مرات ومرات، حينها قدم الجندي الإسرائيلي وسألني ما أريد، طلبت استبدال الفرشة بأخرى كونها مبللة بالماء، وسرعان ما انفجر ضاحكا وقال مستهزأً: "هذا بول، هذا ما تستحقه أنت وأمثالك" وغادر.
كثيرا ما أصابني الأرق، حاولت مرارا النوم بالاستلقاء على جنبي الأيمن والأيسر، لكن لسعة برد الإسمنت تنخر عظمي، لم أتمكن طيلة خمسة أشهر مكثتها في الزنزانة من النوم جيدا، ووجدت أن الوسيلة الأنجع تكمن في النوم قرفصاء.
أسندت ظهري للحائط، واضعا يداي تحت قدمي الحافيتين تجنبا للبرد، ثم ما لبثت أن فقدت الإحساس بهما، استيقظت بعد أربع ساعات، حاولت النهوض لكنني لم أستطع، فقد استبد بي ألم الظهر وجعل من كل حركة أقوم بها عذابا.
زنزانتي التي تحمل رقم "5" أقصر مني، لذا كنت مجبرا على السير داخلها منحنيا، يرتطم رأسي بسقفها كلما وثبت من نومي مفزوعا من ضرباتهم المدوية على بابها.
كنا 23 أسيرا مقسمين على 23 زنزانة تحت الأرض، لا يعرف أحد منا الآخر، ومع الأيام نشأت بيننا علاقة ودية مشوبة بالحذر، ومن دافع أن نشد من عزيمتنا في المواجهة، أوجدنا جوا من الألفة، نستغل خروج الجنود من الممرات لنتبادل الأحاديث.
تمددت على الأرض مرة أخرى، ورحت أراقب من الشق ما يجري في الخارج، الصراخ المجلجل قادم من شاب يعذب في التحقيق، يختلط به صوت المحققين، اندفعت لداخل الزنزانة وشرعت بسد أذني، وأتحسس جسدي، للحظة ما خيل إلي أنني أتلقى صفعات المحققين، لكن الهروب في موقف كهذا غير مجد، رفعت صوتي في تلاوة القرآن، طالبا من باقي الأسرى الابتهال والدعاء، لعلها تنزل سكينة على الشاب، وتثبته في محنته.
بقيت هوية الشاب مجهولة لدينا، فشق الباب يظهر الأقدام، ونحن بحاجة لمعرفة وجوه أصحاب الأصوات المعذبة، جلبت ما بحوزتي من مياه للشرب، وسكبتها أمام باب الزنزانة، كذلك فعل الباقون، عندها تجمعت كمية كبيرة من الماء وسط الردهة، عندها تملكتني البهجة عندما شاهدت صورة الجنود منعكسة على الماء، وهكذا اكتملت الصورة، ورحت أصرف من وقتي ساعات في الحملقة في الماء، عبر الشق.
تساءلت، نحن 23 أسيرا، فمن أين كانت تأتي هذه الأصوات، من ذا الذي يعذب في التحقيق؟ أهو واحد منا؟ ونتساءل فيما بيننا من ذهب للتحقيق؟ دون أن نتوصل لإجابة. لكن الحيلة لم تنطلِ علينا طويلا، اكتشفناها سريعا عبر شيفرة خاصة، "يا عين صبي كازوز"، نرددها واحدا تلو الآخر بعد كل عدد للأسرى، حتى حفظ كل منا نبرة صوت الآخر، ومن هنا بتنا نعرف أن الأناة التي نسمعها ما هي إلا اسطوانة يرددها أحد "العصافير" (الجاسوس)، لإيهام الأسرى أن أسيرا يعذب، لإضعاف معنوياتنا.
بدأ القنوط يتسلل إلى نفوسنا، وحتى لا نكون فريسته كثفنا حلقات النقاش وتبادل الأفكار ووجهات النظر، وعلى حين غفلة بعدما اعتقدنا أن لا حراس في الخارج، فتحوا باب زنزانتي، انقضوا علي، وكبلوني بالأصفاد وألبسوني الغطاء الأسود، وشبحوني في الزنزانة، مرت ساعات طويلة، حتى فتح بابها مرة أخرى، وأحسست بالماء المثلج يغطي جسدي، شهقت بقوة كادت معها دقات قلبي أن تتوقف، ثم أتى الهواء قويا من المروحة التي سلطوها ناحيتي طوال الليل.
كنت أحاول أن أتحرك أن أفرك أطراف أصابع قدمي المكبلتين ببعضهما، شيء ما يعطيني الإحساس بالدفء، كان صرير أسناني جليا واضحا، وكأن رأسي على وشك الوقوع أرضا لشدة الإعياء.
خمسة أشهر لم نميز فيها الليل من النهار، إلا من خلال بث أغاني أم كلثوم عبر صوت "إسرائيل" ومنها نعلم أن الساعة الآن السادسة والنصف مساء، نقلت إلى المحكمة، وحكمت بالسجن المؤبد بتهمة تنفيذ عملية بالقرب من مدينة رام الله، ومنها إلى سجن الجنيد في مدينة نابلس.
مر عام على اعتقالي داخل سجن الجنيد، وجدنا فيها كل ما يحط بالكرامة الإنسانية، وجب منا ذلك الاحتجاج، وتغيير وضع الأسرى للأفضل، لكنهم الجواسيس "العصافير" مرة أخرى، أفشوا مخططاتنا لإدارة السجن، التي استدعتني لإبلاغي بضرورة عزلي عن الفلسطينيين، كوني أحمل جواز سفر أميركي، ولأن الفلسطينيين "مخربون" وجب عزلي حفاظا على حياتي، مع العلم أني كنت أعلم أن السبب التحريض عليهم وليس خوفا على حياتي كما يدعون.
من سجن الجنيد إلى عزل "عسقلان"، أربع سنوات امتدت من بداية عام 1986 ولغاية 1990 مللت فيها محادثة نفسي وجدراني، كان جل همي أن لا يتمكنوا من عقلي، كما تمكنوا من عقول الكثيرين، ممن لم يحتملوا الوحدة والتعذيب، كنت أصبر نفسي بآيات القرآن وغالبا ما كانت الآية "واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا" تمنحني السكينة والطمأنينة.
وجب علي أن أتكيف مع وضعي الجديد، وضعت برنامجا لي، في الصباح بعد العدد أتناول فطوري الروتيني، الذي لم تتغير مكوناته طيلة فترة عزلي، ولطرد الكسل والخمول، أجري تمارينا رياضية تتناسب وحجم زنزانة العزل، وثم وجدتها فكرة جيدة أن أقفز كلما شعرت بالبرد، وهكذا استطعت التغلب عليه نوعا ما، وفي أحيان أخرى هزمني.
كنت حريصا على أداء الصلوات في وقتها، وما تبقى من يومي أقضيه نائما، لم يكن لدي أي خيارات أخرى أضيفها على برنامجي، لكن مع الوقت سمحوا لي بإدخال الكتب، ونسخة من المصحف الشريف، قضيت وقتا جيدا في حفظ بعض أجزائه.
انقطعت عن العالم الخارجي طويلا، وزيارتي ممنوعة، اكتفيت بالأخبار التي تنقلها عائلات الأسرى المعزولين لأبنائهم من خلف بابي الموصود، وفي يوم ما بعد عامين من العزل، اندفع نحوي السجانون كبلوني، واصطحبوني معهم، كنت أعتقد أن معجزة ربما حصلت، وتكون نهايتي سعيدة مثل نهاية الأفلام، وبدأت بوضع احتمالات أنه ربما انتهت فترة عزلي، وجدت الضابط واقفا في غرفته "أمك توفيت" قال لي، وجروني إلى زنزانة عزلي وحيدا، لا أحد عندي يطيَب خاطري سواي.
زارني في زنزانة عزلي ضيف عزيز، سرب طويل من النمل، اعتنيت به كأطفال لي، أمضي ساعات في مراقبتهم، حرصت على إبقاءه معي أطول فترة ممكنة، أدخر قطعا من الخبز وأفتته للسرب، وبنفس اللهفة اليومية استيقظت لإطعامهن لكن لم أجدهن، قلت في سري هن محظوظات لأنهن ذهبن نحو الحرية.
فتك بي ألم الكلى، وأصبحت أتلوى لشدة الوجع، طلبت العلاج من السجانين، اكتفى أحدهم بركل حبة الأسبرين من أسفل شق الباب، تناولتها، وتلوت آية "وننزل من القرآن ما فيه شفاء ورحمة للمؤمنين"، ثم احتضنت خاصرتي وغفوت، وبعد استيقاظي تلمّست رحمة الله بي بأن كان الألم قد زال تماما.
بعد أربع سنوات عزل خرجت إلى الحرية، فالخروج إلى غرف السجن لا تقل فرحة عن الإفراج منه، التقيت الأسرى، وفي كل مرة أطالع وجوههم فيها يخيل إلي أنها المرة الأولى التي أراهم فيها.
28عاما هي المدة التي مكثتها في السجن، نلت بعدها حريتي، لكنني ما زلت خائفا، نعم أنا خائف، فبعد أن أمضيت شطر عمري الأول في ذلك الكابوس، أنا أخاف من العودة إليه ثانية، خائف أن أترك طفليّ، الذين كنت أعتقد أنني سأكون أبا لهم في أحلام يقظتي فقط، لذا ومنذ البداية عقدت العزم أن لا أبوح بإسمي. وجُلّ همي أن أنقل، ولو جزءا يسيرا من حياة أناس نسوا أن على الأرض حياة أخرى.
بعد خروجي، وجدت صعوبة في الانخراط في الحياة الطبيعية، وبت أميل إلى العزلة عن الناس والبقاء وحيدا، وهو ما كنت أمقته داخل السجن، حتى الشمس التي كنت دائم البحث عنها آذت عيني، أبقيهما نصف مغلقتين كلما نظرت إليها.
لاحقتني الكوابيس في نومي، وأذكر كيف وثبت مرة مفزوعا على صوت ما، نهضت من سريري وصرخت "قمع يا أحمد، قمع يا محمود، قوموا يا شباب قمع"، نظرت من حولي لا أحد هنا سواي، هذا منزلي، وهذه غرفتي، جلست على طرف السرير غممت عيني، وبكيت لساعة إلى أن غفوت ثانية".
أشعر بالضيق حينما يسألني أحدهم عن تاريخ اعتقالي الذي بات نسيانه مستحيلا، كونه يصادف اليوم ذاته الذي ولدت فيه طفلتي الأولى، نور، ذات الثلاث سنوات.