عن مصائر ربعي المدهون والهولوكوست والنكبة
خالد جمعة
إنها المرة الأولى التي تفوز فيها رواية فلسطينية بجائزة البوكر، فلماذا استحقت رواية ربعي المدهون أن تكون على رأس قائمة الروايات العربية لعام 2016؟
تتحرك رواية المدهون "مصائر... كونشيرتو الهولوكوست والنكبة" من خلال عدة مسارات، على طريقة الكونشيرتو الموسيقي، وربما من الأفضل تعريف "الكونشيرتو" حتى تسهل متابعة خطوط الرواية، حيث أنها المرة الأولى التي يستخدم كاتب عربي "على حد معرفتي" هذه التقنية في كتابة رواية.
"الكونشيرتو" هو نوع من التأليف الموسيقي، يوضع لآله واحدة أو لعدة آلات، حيث تقوم الآلة أو الآلات بأداء دور رئيسي، وبقية الآلات تكون مرافقة في الخلفية، وكونشيرتو تعني الكفاح باللاتينية، وتعني إشراك عدة أصوات معاً، ويتألف "الكونشيرتو" عادة من ثلاثة أجزاء.
في 270 صفحة يقدم المدهون ارتحالاً أفقياً وعمودياً في عمق القضية الفلسطينية، من خلال رحلة وليد دهمان وزوجته ورماد جثة والدتها التي أوصت أن تدفن على أجزاء، وجزء من هذا الرماد أوصت أن يبقى في جرة مزخرفة في أحد بيوت فلسطين.
تمتد الرحلة من بريطانيا إلى عكا إلى القدس إلى غزة في تواتر مرهق يجعل القارئ يلهث وهو يتابع رحلة وليد دهمان، ويرى بعينه "عين المغترب" كيف تبدو فلسطين لمن يراها للمرة الأولى، حين تخرج من كتب التاريخ الجافة والباردة وتتحول إلى أسلوب حياة.
وبالطبع هناك من بقي في فلسطين بعد احتلالها عام 1948، ويتمثل هذا في قريبته التي تكتب رواية عن "باقي هناك"، وتتحول حياتها ذاتها إلى جزء من المصائر التي يتابعها المدهون برشاقة، مسقطاً معاناة الفلسطيني الذي بقي في بيته وأرضه بعد الاحتلال، وعنصرية هذا الاحتلال بهذا الاتجاه، لكنه لا يلجأ إلى الشعار الصحفي ليوضح ذلك، بل يحوله إلى مأساة إنسانية أكثر شفافية من المقولات السياسية.
لا يبدو وليد دهمان متسامحاً مع الاحتلال رغم زيارته لمتحف الهولوكوست، ومتحف النكبة في القدس، فهو يقول بوضوح إن على الأعداء أن يعترفوا بوضوح عن مسؤوليتهم عن النكبة والمأساة، لكنه لا يلجأ إلى طريقة الصراخ التقليدية التي امتلأت بها بطون كتب الأدب الفلسطيني منذ النكبة إلى اليوم، بل يفعل ذلك بهدوء العارف، والواثق من حقه في الأرض والهواء والسماء التي تقع في هذه البقعة من الأرض.
وبالرجوع إلى "الكونشيرتو"، فإن التركيز على مسارات الغربة والنكبة والبقاء في الأرض المحتلة ومأساة تشتت العائلات ورغبة البعيدين في القدوم إلى أرضهم، شكلت جميعها مع أحداث أخرى قوام الفرقة الموسيقية التي أدت "الكونشيرتو" بحركاته الأربع.
التقنية التي استخدمها المدهون في تحولاته وتجولاته تناغمت تماماً صعوداً وهبوطاً وفرحاً وإحباطاً مع تقنية الكونشرتو، ومع أنها تقنية مرهقة بالنسبة لرواية، إلا أن المهم في النهاية هو الإجابة على سؤال وحيد: هل يؤدي العمل بهذه الطريقة وظيفته ورسالته أم لا؟ والإجابة في حالة ربعي المدهون هي "نعم" جازمة، فقد حوّل المدهون في روايته كل الكتل الروائية عن تاريخ فلسطين وحاضرها إلى تفاصيل يمكن رؤيتها ولمسها، ولا أظن أن أي كاتب يسعى إلى أكثر من أن يُرى المكان والتاريخ من خلال ما يكتب، بل ينهي الرواية على سؤال حين يقول في الصفحة الأخيرة: ونهض الزوجان وفي فميهما نقاش.