من سطور النور الى سواتر العتمة
كتب محمد مسالمة
أصوات ابواب تُغلق فيتردد صدى صريرها في "فضاء الحرية"، أروقة بنيت تحت سطور النور التي اعتلت رفوف المكتبات ودور النشر المشاركة في معرض فلسطين الدولي للكتاب 2016 المقام في رام الله. وفضاء الحرية هو اسم مكان يحاكي مركز تحقيق "المسكوبية" التابع لجيش الاحتلال الاسرائيلي بكل تفاصيله وزنازينه ولون جدرانه، حتّى وحشته!
مركز التوقيف والتحقيق المحطة الأولى في حياة الأسير الفلسطيني، ويكاد "فضاء الحرية" المحطة الاخيرة التي يتجوّل فيها الزائر لمعرض الكتاب، يقع في طابقٍ أسفل المعرض. مكان مظلم يبدأ بصور كبيرة للأسرى في سجون الاحتلال، وجدرانه المتقاربة ترسم طريقا ضيّقا لزائرها، على يمينك ويسارك غرف الزنازين والتحقيق والتغذيب وغرفة الثلاجة التي سأخبركم عنها لاحقاً.
كآبة العيش تعكسها الأضواء الصفراء الخافتة، وظلام الجدران العالية، والنظر الى أدوات التعذيب، يبدو للزائر أن رحلة الأسير هنا تبدأ عندما يشاهد ملفات الأسرى التي وضعت خلف أحد موظفي السجن، ومقتنيات الاسير التي تتواجد في غرفة خاصة لن تخرج منها ما لم يخرج هو من السجن.
الاحتلال اعتقل نحو مليون فلسطيني منذ عام 1967 ولا تكاد أسرة فلسطينية الا ولها تجربة في الأسر، ولكن مهما قرأت وعرفت عن السجون وسمعت قصصاً إلا أنك عندما تدخل الى الزنزانة ويغلق عليك الباب ويظلم المكان ستتلخص في ذاكرتك صورة أخرى، وتعيد بذاكرتك مشاهد كثيرة، تختلط في نفسك مشاعر يصعب وصفها.
على جانب غرفة التحقيق الأولى توجد غرفة "الثلاجة" الضيقة، والتي اذا انتهت المرحلة الاولى من التحقيق دون اعتراف، يوضع بداخلها على درجات حرارة متدنية تتلف الأعصاب والعظام، والى جانبها غرفة ضيقة جداً تضطّر الى الدخول بها بأمر من صاحبة السجن الافتراضي الفنانة المسرحية ميساء الخطيب التي ترافق الزائرين وتزودهم بالمعلومات، تكاد تختنق في هذه الغرفة التي لن يسمح للأسير أثناء قضاء 24-72 ساعة فيها بالخروج الى "الحمام" حتى يضطر لقضاء حاجته على نفسه.
لا أحد يتوقع ان يلمس حياة الاسير بمشاعره الداخلية إلا في هذا السجن، أرى المشاعر تلامس الجدران وترجع الى القلوب لتذيبها قهراً وحزناً يطفو على وجوه من يستمع الى ميساء، يشعر الزائر جسدياً بالمعاناة حينما يوضع في الثلاجة والزنزانة، تصل رسالة الظلم الى نفسه بسرعة وتأثير كبيرين.
زنزانة مقابلة للعزل الانفرادي، هي حياة القبور الثانية ولكنهم "الميتون الاحياء"، يقضي الاسير منفرداً متوحداً مع الوحشة والظلمة وضيق المكان، وربما يستمر عليه هذا الوضع لمدّة اعوام. تأخذنا ميساء الى مشهد آخر وتسترسل في حديثها: كل مرحلة ينتهى منها الأسير تكون في انتظاره مرحلة أصعب في التعذيب والتنكيل".
خرجنا من العزل الانفرادي الى غرفة تبدو جميلة ومرفهة، متّسعة ونوافذها كبيرة، وفيها حمام أيضاً، ما هذا؟! تتساءل مستغرباً، هل انتهت المعاناة؟! ترد ميساء: لا، بل ستبدأ من جديد، لأننا الان في غرفة العصافير، غرفة الاعتراف غير المباشر، تحوي على أسرى افتراضيين من وحدة المستعربين، او من العملاء، وهنا تبدأ رحلة التمثيل على الاسير الحقيقي الوحيد بينهم، واذا اعترف تكون في انتظاره غرفة "الشبح".
غرفة الشبح في سقفها "بكرة حديدة" في داخلها حبل غليظ مجدول، وكأنها مشنقة يرفع السجّان الاسير عليها عارياً، ويجلده ويتلذذ بتعذيبه، العديد من الاسرى حسب التوثيق يخرجون من هذا الشبح بفشل كلوي أو تشمّع للكبد نتيجة الاستمرار في تقيؤ الدم، "واحدة من الاسيرات تعرضت للاغتصاب هنا" تنقل ميساء عن مذكرات الاسيرة عائشة عودة من دير جرير برام الله، وهذه القصة التي تترك وقائعها أثراً كبيراً لزائري السجن، حيث تعرضت للتعذيب الهمجي والوحشي القاسي، وفقدت جزءاً كبيراً من سمعها وجسدها.
وفي ساحة "الفورة"، تواصل ميساء عرض ثلاثة أفلام تحكي معاناة الاسرى، هي فيلم "4400 اسير في سجون الاحتلال"، وفيلم "انين الحرائر"، وكذلك "ثمناً للشمس".
ومن داخل سواتر العتمة يفتخر الفلسطينيون بادبيات السجون التي انتجت فكرا حرا كتبه الاسرى من زنازينهم رغم كل ما يتخيله العقل بين هذه الجدران، وفي معرض الكتاب الذي يحمل سطور نور الاحرار خارج السجون، يسيطر على لساني وفكري وقلمي جملة واحدة مفادها: لعلّ آلاف الكتب تقشع سواتر العتمة.