آخر نساء النكبة
وسام يونس
عشن لحظات النكبة الأولى وما زلن يروينها كأنها حصلت البارحة... أم عزيز وأم منصور، ووفاء، وعائشة، من القلائل المتبقين من جيل النكبة، الجيل الذي شاهد فلسطين تهوي أمام عينيه دون أن تتلقفها يد، والذي شهد على تزوير التاريخ وإغراقه بالدم، الجيل الذي تُشكل كل ذكرى في وجدانه وثيقة تثبت حقه بفلسطين.
"الحكاية لا تبدأ من النهاية.. لم ننس البداية، ولا مفاتيح بيوتنا، ولا مصابيح الطريق التي أضاءها دمنا، ولا الشهداء الذين أخصبوا وحدة الأرض والشعب والتاريخ، ولا الأحياء الذين ولدوا على قارعة الطريق الذي لا يؤدي إلا إلى الوطن الروح، ما دامت روح الوطن حية فينا"، هذا ما عبرت عنه "آخر نساء النكبة" في مخيم برج البراجنة في لبنان، وهن يروين ذكرياتهن القاسية إبان نكبة عام 1948، حيث اقتلعن وعائلاتهن من بيوتهن على أيدي العصابات الصهيونية، ولكن رغم ذلك ترى الحزن والأمل معا على وجوههن، حزنا فرضته عقود من العمر عشن خلالها خارج أرضهن وبعيدا عن وطنهن، وأملا متجددا بالعودة يوما ما.
ورغم عدم قدرتهن على ممارسة حقهن المشروع بالعودة، إلا أنهن ما زلن متمسكات بعودة أبنائهن وأحفادهن، هؤلاء النسوة وأمثالهن هن الوحيدات اللواتي يستطعن أن يفندن إنكار إسرائيل مسؤوليتها عن الإبادة التي تعرض لها الفلسطينيون قبيل النكبة.
الحاجة أم عزيز تجلس في منزلها في مخيم برج البراجنة أمام صور أبنائها الأربعة الذين فقدتهم في مجزرة صبرا وشاتيلا، لكنها لم تفقد الأمل بعودتهم؛ لأنها لم تر جثثهم ولم تدفنهم، كما أنها لم تفقد الأمل بالعودة يوما ما إلى قريتها "عمقا" قرب عكا.
أكثر اللحظات غلاوة على قلبها، كما تقول، هي عندما يزورها أبناء رياض الأطفال في المخيم، لتباردهم بسؤال: منأين أنتم؟ ويأتي الجواب من الأطفال فورا: نحن من فلسطين، حيث تجلس معهم، تحدثهم عن صعوبة حياتها وقسوتها وعمرها الذي أمضته بعيدا عن قريتها، وعن خروجها وأهل قريتها من فلسطين، وتحدثهم عن شعورهابالقهر لأنها تركت دارها.
أم عزيز زارت فلسطين ثلاث مرات، ذهبت لرؤية قريتها مجددا، تقول "عندما وقفت هناك انتعشت ذاكرتي من جديد وتذكرت بيوت قريتي وأهلها، عادت بي الذاكرة إلى ايام البساطة وحب الناس لبعضهم، والى روح المودة والرحمة التي كانت سائدة بينهم".
اما خديجة علي غميرد فهي ما زالت تحتفظ بحجة أرضها في قرية "سمخ" المهجرة قرب طبريا، وما زالت تذكر محطة القطار التي كانت تصل مدن فلسطين بالحجاز، وكذلك مدرسة سمخ للبنات التي تعلمت فيها حتى الصف الرابعالابتدائي.
حدثت النكبة فحرمتني من كل ما كنت أملك من حياة، تقول خديجة، وتحدثت بإسهاب عن زميلاتها في المدرسةومعلماتهاـ وتتذكر من ايام المدرسة المربيتين رئيفة الزعبي من الناصرة، وبلقيس الغنوم من صفد.
ترى بوضوح الحزن والأسى في عيني أم منصور وهي تتحدث عن معاناتها وخروجها من فلسطين، فمنذ النكبة حتى الآن تنقلت بين أكثر من دولة، تقول "بعد بداية الحرب في سوريا، دخل المسلحون الى منطقة الحسينية التي هي عبارة عن تجمع للفلسطينيين قرب مدينة دمشق، وبدأ القتل والخطف ولم نعد نأمن على حياتنا وحياة ابنائنا وبناتنا، جئنا الى لبنان وفقدنا مرة اخرى كل شيء".
تعود أم منصور لتحدثك عن فلسطين وعن ذكرياتها التي لم تفارقها في رحلة العذاب الطويلة، رحلة امتدت لأكثر من ثمانين عاما عانت خلالها الكثير وفقدت أحباء وأقارب. "أريد العودة إلى أرضي لأنها وطني وعرضي وكرامتي، أريد هوية ووطنا يحفظ لي انسانيتي وكرامتي"، قالت أم منصور.
عائشة يوسف خليل ابنة قرية "السموعي" المهجرة قضاء عكا، تذكر كأنه حدث أمس، كيف كان يذهب أهل قريتهالقطاف الزيتون وعصره في معصرة القرية. بشرتها تشبه لون تراب فلسطين، وتختزن عيناها ذاكرة أجيال ناضلت وقاومت من أجل الحفاظ على حق شعب في الوجود.
وعن أحداث النكبة تروي عائشة قصة رجل من القرية من آلـ"الحاج" اعتقلته العصابات الصهيونية وطلبت منه إرشادهم لمختار القرية عبد صالح، وبعد أن رفض التعامل والتعاون معهم قامت العصابات بإحراقه حيا أمام عائلته.
تعيش عائشة على أمل ان تعود يوما الى بيتها، تقول "أعرف أن الظروف تمنعني من العودة إلى ارضي، لكنني متمسكة بحقي وحق أولادي وأحفادي بالعودة يوما ما إلى فلسطين".
فيما تسرد وفاء حسين أبو حمد من ذاكرتها قصص الطفولة في مدرسة حيفا، وكيف كانت ترتاد المدرسة مع زميلاتها وكيف كن يقضين أوقات الفراغ في التنزه في شوارع المدينة الجميلة.
وتعود للحديث عن قصة اقتلاعهم من أرضهم، بالقول، "سمع الجميع بما حصل من مجازر في المدن والقرى المجاورة، خاصة مجزرة دير ياسين، سيطر الخوف على الأهالي وخشي الجميع من مصير مجهول، فانتقلنا إلى أماكن أكثر أمنا، إلا ان العصابات الصهيونية أجبرتنا على مغادرة أرضنا".
تروي وفاء قصة محزنة حصلت معهم وهم في الطريق من حيفا الى لبنان، عن امرأة فلسطينية أرادت ان ترضع طفلها الذي تحتضنه منذ تركت بيتها هاربة مع من هربوا عابرين الجبال والوديان باتجاه الامان. تقول "اكتشفت بعد وصولنا الأراضي اللبنانية أن الذي بين يديها لم يكن سوى وسادة حملتها معها من منزلها معتقدة أنها ابنها".
نكبة فلسطين شكلت محطة سوداء في التاريخ الحديث للشعب الفلسطيني، فمن ناحية تم طردهم من وطنهم وأرضهم وجردوا من أملاكهم وبيوتهم، ومن جهة ثانية شردوا في بقاع الأرض لمواجهة كافة أصناف المعاناة والويلات.
وأكد تقرير صادر عن الجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء لمناسبة ذكرى النكبة، أن نكبة عام 1948 تمثلت باحتلال ما يزيد على ثلاثة أرباع مساحة فلسطين التاريخية، وتدمير 531 تجمعا سكانيا، وطرد وتشريد حوالي 85% من سكان فلسطين.
ويرى بعض الكتاب والمحللين، أن مصطلح نكبة يعبر عن الكوارث الناجمة عن الظروف والعوامل الطبيعية مثل الزلازل والبراكين والأعاصير، بينما نكبة فلسطين كانت عملية تطهير عرقي وتدمير وطرد لشعب أعزل وإحلال شعب آخر مكانه، حيث جاءت نتاجا لمخططات عسكرية بفعل الإنسان وتواطؤ الدول، فقد عبرت أحداث نكبة فلسطين وما تلاها من تهجير حتى احتلال ما تبقى من أراضي فلسطين في عام 1967 عن مأساة كبرى للشعب الفلسطيني، حيث تم طرد وتهجير أكثر من 900 ألف فلسطيني خارج وطنهم ليقيموا في الدول العربية المجاورة وكافة أرجاء العالم، وذلك من أصل 1.4 مليون فلسطيني كانوا يقيمون في فلسطين عام 1948، وذلك في 1,300 قرية ومدينة فلسطينية.