طاهر رياض .. بحث مستمر وأسئلة كثيرة
نداء عوينه
له بداية مبكرة في الشعر العمودي، وأشجار عشيقات يستظل بهن، ورحلة بحث عن الشعر يقول إنها لن تنتهي قبل انتهائه، نشر قصيدته الأولى في العشرين من عمره على لسان امرأة، وطبع ديوانه الأول بعدها بسبعة أعوام.
طاهر رياض، فلسطيني الأصل أردني المولد والمنشأ، يرى الفن حالة من القلق وعدم الاستقرار، ويراه أيضا منالا صعبا للمتلقي الجائع للمعرفة. ببساطة التعبير وعمق الفكرة يقول الأشياء شعرا موزونا مقفى، متماهيا مع الطبيعة متحدا مع الوجود، يحاول أن يعيش الحياة كما ينبغي.
بدأ بكتابة الشعر العمودي وانتقل منه إلى شعر التفعيلة، "فهو تطور طبيعي موسيقي من داخل بيت الشعر التقليدي، قابل للتجديد والاحتمالات المتعددة، فكان ديواني الثاني طقوس الطين 1985 مزجا بين الشعر العمودي وشعر التفعيلة".
يقول رياض إنه يجد نفسه في الإيقاع والموسيقى أولا وتشده النشوه الإيقاعية كالمعنى تماما. لم يكتب قصيدة النثر ويفرق بينها وبين قصيدة الشعر الموزونة ذات الإيقاع الموسيقي، "ليس في الأمر توصيف قيمة؛ القصيدة من القصد، وإن اختلف العرب في تسمية قصيدة النثر وتعريفها، فهي قصيدة إن كان الكاتب يقصد أن يكون شكلها هكذا، لا تخلو من الجمالية فكل نوع له ميزاته وجمالياته إن كان مكتوبا جيدا وذا قيمة للشاعر والمتلقي".
للشاعر رياض ثماني مجموعات شعرية، آخرها سراب الماورد 2015. ويرى القارئ لشعره تواجدا كثيفة لموضوعة القلق والاغتراب، ويرصد رحلة بحث مستمرة في الطبيعة والوجود والشعور، فشعره يقلقك إن كنت مرتاحا مستكينا وتجد نفسك فيه إن كنت قلقا مضطربا.
لا ينكر رياض ذلك حين يقول إن أجمل من استخدم كلمة القلق هو المتنبي- على قلق كأن الريح تحتي- "حالة الاطمئنان والسلام مع الأشياء لا تكتب الشعر؛ الإبداع هو وليد القلق والحيرة وعدم الاطمئنان والاستقرار. تكون الأشياء منتهية لدى المطمئن والمستقر، أما الفن فينتج عندما تجد أن الاشياء ليست في مكانها الطبيعي وليست كما تبدو. نريد أن نبحث عما هو أعمق، وهذا البحث هو ما يولد كل الإبداع في الفنون، وإن لم يقل بلفظه يكن خلف النص وتحته وبداخله".
وعن الصلة مع الطبيعة ومفرداتها التي تتردد كثيرا في قصائده، يقول رياض إن وصف الطبيعة التقليدي خارجيّ وإن كانت به جماليات، "أنا أتماهى مع الأشياء، أنا أحبها لدرجة أنني أحسها. أنا بُستَنجيّ، ولي في ذلك مزاج وأعرف عنه شيئا ولي عشيقات أشجار أستظل بهن وأحبهن، في أحد اللقاءات القديمة، سئلت لماذا تكتب شعرا؟ فقلت إنني لا أحب كتابة الشعر، كنت أحب أن أكون بستنجيا أو طباخا لأرى كيف تكبر الأشياء وتتفاعل، لكن لا أمي تركتني ألعب بالحديقة ولا زوجتي تركتني أدخل المطبخ لأطبخ، فرحت أكتب شعرا".
تفرغ للكتابة عام 1990، يكتب الشعر ويترجم في بعض الأحيان، يحب الحياة كثيرا، ويخشى ألا يعيشها كما ينبغي، فهي ليست متاحة دوما. يبحث دائما عن أساليب تعبير توضح ما يريد أن يقول.
في الشعر يكتب نصه وينساه، يعود له بعد أشهر ليختار فقط ما يضيف لتجربته الشعرية وما يضيف لتجربة الشعر العربي، عينه ناقدة لنصه، فيراه مجدَّدا ومجدِّدا، "بعد كل نصّ، تضعني الكتابة على فم الجوع والقلق من جديد، أتردد وأرجع للوراء أمامه، لا أثق بكل ما أكتب، ولا أنشر سوى ما يضيف شيئا ما للمعرفة ولي وللقارئ".
القارئ الجائع الباحث عن المعرفة هو الأجدر أن تكتب له. الفن الحقيقي ليس الذي يقول ما يعرفه المتلقي. من يقرأ قصيدة، أي واحدة عليه أن يعرف اللغة العربية، وبعض الموسيقى والقليل من الأوزان، وأن يكون قد قرأ بعض الشعر الجيد حتى يستطيع التقييم ومعرفة قيمة القصيدة، عن هذا يقول طاهر رياض "وإن لم تكن لديه هذه المواهب أنا لا أعنيه بشيء، وهذا ما أقصده حين أقول إن كل الفنون الجيدة والعميقة هي فنون للنخبة؛ لجائعي الفن. هل هناك فن حقيقي إلا إن كان نخبويا؟ كم بيتا تدخلينه فيه مكتبة حقيقية؟ كم باحثا جائعا يبحث عن الشعر أو الرواية أو المعرض التشكيلي أو حفل موسيقي كلاسيكي ويدفع ثمن تذكرة ما يدفعه أحيانا ثمنا لسجادة؟ حين أقول إن الفن للنخبة، أقصد المثقفين الباحثين الذين يشعرون أن الفنون ليست ترفا بل ضرورة للحياة، كالماء والهواء. وهؤلاء هم قلة. وهؤلاء هم النخبة".
وماذا لو كانت المسألة تتعلق بسهولة الوصول للفن الجيد، أو الشعر الجيد، ولم لا يبحث الشاعر عن المتلقي الجيد؟ يقول رياض: "أنا لا أريد أن أرضي القبيلة، ولا أن أصبح مشهورا عند أغلب الناس، أريد أن يقرأني من يعرف أن يقرأني ومن هو مهيأ معرفيا لقراءة نص كهذا".
إن أغلب القصائد المعروفة لدى عامة الناس والمستساغة من قبلهم هي القصائد المباشرة والسهلة، فأغلب من أحب محمود درويش من خلال قصيدة "سجل أنا عربي"، لا يستطيع قراءة النصوص الأصعب والأعقد والأعلى جماليا له، كـ"الهدهد" و"خطبة الهندي الأحمر"، التي تحتاج لقارئ مثقف أكثر.
يعمل الشاعر دون توقف ليثقف نفسه ويطور أدواته ورؤيته، وعلى القارئ أن يتابع ما يفعله المبدع وأن يبحث عنه وليس العكس. ليس على المبدع أن ينزل للقارئ ليقول له ما لا يعرفه. الفن للبحث، لأن يقول لك ما لا تراه وما هو خلف المظاهر الخارجية، ما تحتها وما هو سرها. وإن لم يكن الفن هكذا وإن قال ما يعرفه الناس لن يضيف أفقا ولا معرفة ولا شيئا للنفس.
"التوضيح في الشعر ثرثرة، لن أقول بسطرين ما أستطيع قوله بجملة واحدة،" قصيدة مثل حلاج الوقت هي صوفية، ولاصوفية في الوقت ذاته، وقد عملت عليها أكثر من عامين حتى تكثفت وأصبت ثلاث صفحات بلا من عشر، أريد أن تصل الجملة بحدتها وحرارتها، فهي كالسكين، السكين العريضة لا تقطع جيدا، والجملة الجيدة كالسكين الجيدة أكثر حدة وحرارة وقطعا.
يستمر رياض في بحثه، وقلقه، وفي وصفه لما هو تحت الشعور الظاهر. تكثر الأسئلة في قصائده، وتزداد الأسئلة التي يطرحها المتلقي كلما ازداد فيها قراءة، "ما أريد قوله أحاول أن أقوله في الشعر وأكذب إن قلت أنني قلته، قدر الفنان أن يحاول للنهاية لأن الأشياء ليست محدودة، ولانهائية ومتداخلة ببعضها في الوجود والحياة والموت والألم والظلم، وهي الموضوعات الأساسية في كل عمل إبداعي وليس لها توصيف كامل. في كل لحظة تتجدد الموضوعات ويستمر قولها".