"كنا وما زلنا"
رامي سمارة وإيهاب الريماوي
يأخذهم بإرادة توقهم إلى حيث تؤدى طقوس المشاعر، إلى أماكن يمكن لأحاسيسهم أن تنفجر بحضرتها، ووحده يرصد ردود فعلهم إن ابتسموا، أو دمعوا، أو جثوا، أو قفزوا.
المكان هو ذاته لو تغير مُحياه، والحجارة تعرف ترتيبها لو اصطفت من جديد، والهواء نقي رغم انوفهم، والدروب تحفظ خطى من داسها، والبحر يجدد نفسه، يلتقط ما سقط من عبابه على الشاطئ ويبعثه إلى هناك من جديد.
يصحح أخطاء في كتب التاريخ الحديث، ويعيد للسابق شكله بألوان الآن: قبل عام ثمانية وأربعين كانوا، وبعد ثمانية وستين عاما ما زالوا، أهل الأرض، هواؤها وترابها وماؤها ونارها.
من القدس ينحدر طارق البكري، والبطاقة "الزرقاء" التي منحت له لا يكتفي باستخدامها للوصول إلى مكان سكناه، هو يريد بها، أن تعرف الآخرين بأماكنهم.
"لأنني أقطن القدس؛ بإمكاني التنقل بين سائر القرى والمدن في الداخل، ومن هنا تخلّقت فكرة التوثيق التي أعمل عليها منذ 5 سنوات".
يحمل طارق إجازة في هندسة الحاسوب من جامعة عمان الأهلية ف الأردن، هناك التقى بلاجئين تحسس شوقهم للبلاد، "تعرفت على الكثير من الأصدقاء الفلسطينيين في الشتات، وحين كنت أعود إلى القدس خلال الإجازات أقوم بتصوير قراهم وإرسال الصور لهم، يمكنني أن أكون جسرا أطفئ ولعهم بأرضهم".
لما أنهى دراسته قرر العمل بتنظيم أكثر لتوثيق مبتكر للقرى الفلسطينية المهجرة، وللمناطق التي لم يعد بمقدور أهلها الوصول إليها، في نهاية كل أسبوع يقوم بزيارة قرية يصوّر معالمها وبيوتها المدمرة، وهو بما أتيح له من إمكانيات زمانية ومالية يعتبر نفسه حارسا للذاكرة.
أطلق طارق بادئ الأمر الفكرة كهاوٍ، فانكب على مراجعة مخطوطات وقراءة وثائق بحثا عن حقائق لا يساوره شك بشأنها، وعمه الراحل علاء أخذ بيده دعمه وشجعه، ووضع بين يديه مراجع تاريخية تعينه إذا ما اختلط عليه الأمر.
"بدأت كهواية حتى تبلورت الفكرة وتطورت إلى مشروع وطني ورسالة، كنت أقوم مرة في الأسبوع بتصوير قرى مهجرة، واستخدم صفحاتي الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي لنشر الصور إيمانا بفكرة أن العودة حق، من خلال مراجعاتي التاريخية وجدت أن الكثير من القرى المهجرة التي يزيد عددها عن 500؛ لم تحظ بفرصة التقاط صورة لها ولسكانها قبل عام 1948"، يقول البكري.
لم يكن في اعتقاد طارق أن هذه المبادرة ستلاقي من القبول ما لاقت في مهدها، والتفاعل اللافت الذي وجده عند اللاجئين والمهجرين ألقى بثقل جديد على كاهله، "حين أطلقت مشروع تصوير القرى لمست حجم التفاعل، ربما للصورة فعل آخر في النفوس يفوق أثر الكلمة المحكية أو المكتوبة. أصبحتُ مقصد المهاجرين لتصوير قراهم وبيوتهم، حتى أن بعضهم كان يأتي إلى فلسطين ويطلب مني اصطحابه إلى قريته".
اتسعت قنوات الاتصال بينه وبين اللاجئين في الداخل والشتات وتشعبت، لا يكاد يمضي يوم حتى يجد من يطلب منه تصوير قريته المهجرة أو منزل ذويه فيها، وهو لا يرد أحدا خائبا، يتواصل باستمرار معهم، يجمع أولا المعلومات عن القرية، يتوجه إليها يتلقط لها صورا، ويعود يرسلها لهم "هذه قريتكم أنتم من هناك".
بعد أن انتزع زيارة لمخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، انغرس فيه دافع التوثيق أعمق، وارتأى أن ينتقل بمشروعه إلى مرحلة متقدمة، أسماها "قبل وبعد".
في صورة واحدة يجمع السابق والآن بلقطتين، إحداهما رقمية حديثة وملونة والأخرى ورقية بالأبيض والأسود، يسأل الناس عن صورٍ لمنازلهم وعقاراتهم في القرى المهجرة قبل النكبة، يأخذها ويبحث عن مكانها ويعيد التقاط الصورة من ذات الزاوية، يضع إحداها فوق الأخرى ويعرضها، هكذا كانت وها هي الآن.
"أحصل على الصور القديمة للعقارات وأنطلق بحثا عنها، الأمر قد يستغرق أحيانا أسابيع لإيجاد المكان وإعادة تصويره، أصحاب الصور يعلمون فقط أنها التقطت لمنزل أحد أقربائهم في إحدى القرى، وهذا ما يجعل من عملية العثور على الهدف أمرا صعبا"، يقول البكري.
كل الجهد ينسى ويتلاشى التعب، ينقلب إلى طاقة إيجابية تدفعه نحو المزيد من العمل على مشروعه، بمجرد أن يلمس رد فعل أصحاب الأرض، وأحيانا يصاب بخيبة الأمل إن توجه لتصوير عقار أحدهم وكان ضمن ما هدمته العصابات الصهيونية حين احتلت فلسطين.
ويضيف: "تتناقض لدي المشاعر، أسرّ حين أرسل لأحدهم صورة تشي بأن بيته في انتظار عودته، ويصيبني الإحباط عندما يتواصل معي لاجئ لتصوير منزله فأذهب ولا أجد المنزل أو القرية قد سويت بالتراب. أعمل دوما على إيقاد جذوة الأمل فيّ وفيهم، الأمر لا يتعلق بحجارة، وما دامت القرية معروف مكانها فهذا دليل على أن العودة ستكون قريبة".
كتب طارق بكري معلقا على إحدى الصور التي نشرها على صفحته في موقع فيس بوك: "السيدة سارة أبو عجمية والمقيمة في الأردن خلال زيارة قريتها "مغلس" الواقعة على خط الرملة – الخليل – غزة، والمطهّرة عرقيا عام 1948. ربّما أصبنا بنوع من خيبة الأمل لعدم تمكننا من تحديد منزل العائلة بسبب الدمار الكبير الذي لحق بالقرية، لكن زعتر البلاد كان كفيلا بإدخال السرور الى قلب السيدة سارة والتى لم تر أفضل من هذه الهدية لتحملها معها الى عمّان وتوزعها على أفراد العائلة".
لا يتوقف مشروع طارق بكري عند تثبيت الحق، بل يتعداه لدحر الباطل، بـ"كنا وما زلنا" يوثق الحياة قبل النكبة، يفند الدعاية الإسرائيلية بأنهم احتلوا أرضا فقط بلا شعب.
غولدا مائير رابع رئيس وزراء إسرائيلي، نشرت لها صحيفة "واشطن بوست" الأميركية تصريحا على أولاها عام 1969، نفت فيه وجود الشعب الفلسطيني.
مائير المولودة في أوكرانيا سكنت في حي الطالبية بالشطر الغربي من مدينة القدس، أقامت في منزل الفلسطيني حنا بشارات.
استطاع طارق بكري أن يحصل على صورة في ثلاثينيات القرن الماضي التقطت لعائلة بشارات أمام المنزل الذي أقامت فيه من ادعت أن الأرض التي احتلت كانت مهجورة.
كان طارق إلى أن أطلق مشروعه لا يتوقف كثيرا عند لفظ أسماء مناطق وقرى تم تهويدها وعبرنتها، اليوم لا يفوته أن ينادي عليها باسمها القديم، قل "سريس" ولا تقل "شورش"، "بيت مائير" هي في الأساس "بيت محسير"، وإن أردت لن يبخل عليك بتسمية أهالي تلك القرى والعائلات التي قطنت فيها قبل التهجير.
عزم أضافي يدفعه نحو الاستمرار في مشروعه حين يصادف أحدا يشكره على تصحيح تسميات الأماكن لديه، "تأثيري في الناس يقويني وبه أشحن طاقتي".
يؤمن طارق بكري بضرورة الإبقاء على مشروعه دون أي تدخل خارجي، يريده جزءا من حياته يخصص له وقته وجهده ونفقته، لا يضيره إن كان ينمو ببطء رغم كل التفاعل الذي يلاقيه، "الأمر متعب ومكلف، ولكن أفضل أن يبقى بهذا الشكل، لدي الكثير من الأفكار، لكنها تظل محدودة طالما أقوم بهذا المشروع من وقتي وجهدي الخاصين".
في جولة لتصوير أحراش اللطرون قرب مدينة القدس، عثر صدفة على شواهد قبور غير واضحة المعالم، أزاح تراكمات السنين من فوقها، لتظهر عليها أسماء جنود أردنيين كانوا يتقدمون صفوف محاربي الاستعمار في معركة باب الواد بين القدس ويافا، خلال العدوان عام 1948.
"وجدت 8 قبور لشهداء أردنيين من بينهم الشهيد علي حسن العوران لم يكن أحد يعلم ما مصيره وسُجّل في عداد المفقودين، التقطت صورة شاهد القبر ونشرتها، حينها فقط علمت عائلته التي تقطن الطفيلة أنه ارتقى شهيدا".
استدعت العائلة طارق وكرمته في الطفيلة، أقاموا له مراسم خاصة، وضعوا اسمه على يافطات علقت على مدخل المدينة ترحيبا وتقديرا، آل العوران رفضوا نقل جثمان ابنهم ليدفن في الأردن، لم يجدوا أقدس من القدس لتحتضن الشهيد على مرمى بصر طارق بكري "حارس الذاكرة" كما يود أن يلقب.