الحاج عبد الرؤوف المبحوح شاهد على نكبة "بيت طيما"
سامي أبو سالم
يواظب الحاج عبد الرؤوف محمد المبحوح (82 عاما)، على رفع الأذان خمس مرات يوميا في المسجد المجاور لبيته في حي تل الزعتر بمخيم جباليا شمال قطع غزة، إذ بات صوته "العميق" إحدى العلامات الفارقة للمنطقة، لكنه صار "ضعيفا" حين عاد بذاكرته لسرد ما مر به في يوم النكبة، وكيف هجّر وأبوه وإخوته من قرية بيت طيما، قبل 68 عاما ولم يعد إليها حتى الآن.
في تشرين أول/ أكتوبر 1948 هاجمت العصابات الصهيونية المسلحة قرية بيت طيما، شمال شرق غزة، وطردت وقتلت أهلها ودمرت القرية التي لم يعد لها وجود سوى على الخرائط الورقية. عبد الرؤوف المبحوح كان شاهد عيان على نكبة أهلها.
في ساعات صباح الباكر فتح عيناه على أصوات انفجارات وصفير القذائف والأرض تهتز تحد قدميه. القذائف تنفجر وسط القرية وفي الحقول المجاورة، فزع الناس وأخذوا يجرون على غير هدى، فرّ غالبيتهم من القرية تجنبا للموت فقط، كما يقول المبحوح.
فزع عبد الرؤوف وإخوته في ساحة الدار الطينية بجانبها "حوش" الدواب، تائهين لا يعرفون ماذا يفعلون، الجميع كان بانتظار أي إشارة من الوالد (مختار القرية) محمد حسن المبحوح، الذي لم يفكر مرتين، أمر أولاده بمغادرة البيت بل ومغادرة القرية فورا.
"قرر أبي أن نهرب لسببين؛ الأول أن لا سلاح مع الفلاحين وهم أصلا غير مدربين، والسبب الأهم أن قوات جيش الانقاذ العربي انسحبت من جوار القرية، ما يعني أننا بتنا بلا حماية،" يقول المبحوح.
"المدفعية تخلع (تقصف) والناس تتخبى في كروم العنب وبين شجر التين والمشمش والبرتقال.. فش حد (لا أحد) يدافع، فش سلاح كلنا فلاحين، الناس تجري في كل زاوية في القرية، الغالبية هرب دون أن يحمل شيئا من الممتلكات."
يحملق المبحوح بعينيه إلى أعلى، يصمت قليلا فيما يبدو أنه يلملم ما تبقى في ذاكرته، ويقول إن أهل القرية هربوا إلى الوادي الجاف المحاذي للقرية، منهم من يحمل صغاره والبعض يحمل أمتعته، وآخرون يسوقون أبقارهم.
كانوا يهرولون وهم يلتفتون إلى الخلف، ينظرون إلى بيوتهم، يصرخون على أقاربهم بالإسراع أو لتجنب قذيفة متوقعة، الجميع كان خائفا ومرتبكا وتائها. ويضيف المبحوح: "أبي قاد جملا وبضع بقرات وسار في الواد وأنا أمشي خلف البقرات، إلى أن وصلنا مدينة المجدل- عسقلان".
في وصفه لحالة الفارين من الموت، قال المبحوح "لا يوجد وصف لشخص يجري بنفس مهزومة، ترك أرضه وبيته يحترق وهرب.. ستكون بطلا لو بقيت على قيد الحياة".
فرّ أهل بيت طيما إلى المجدل، ولم تستقبل المجدل أهل هذه القرية فقط، فقد لجأ إليها آلاف الفلاحين من القرى المجاورة، منها برير وعاقر وكوكبا وحليقات والجية وغيرها.
كان أهل كل قرية، تتعرض للهجوم العسكري من العصابات الصهيونية يلجؤون إلى القرية المجاورة لها، حينها لجأت عائلة "الشلفوح" من قرية برير إلى بيت طيما واستشهد زهاء خمسة أشخاص منهم في القرية قبل أن يكملوا طريقهم إلى المجدل، والحديث هنا للمبحوح.
في المجدل عُقدت جلسات بين الفلاحين، يتناقشون، متى سنعود، لكن الخوف من الموت وما سمعوه عن مجزرة دير ياسين كان رادعا كافيا لعدد كبير منهم بعدم العودة.
"سمعنا أن اليهود ذبحوا النساء والأطفال في دير ياسين، الجميع كان يخاف من تكرار ما حدث، كان القرويون مرتعبون من هول ما سمعوا عنها."
وكانت عصابات "شتيرن" و"الهاغاناة" الصهيونية المسلحة قد ارتكبت مجزرة في قرية دير ياسين، غرب مدينة القدس، راح ضحيتها زهاء 350 فلسطينيا معظمهم من النساء والأطفال، ليلة العاشر من نيسان/ أبريل 1948.
بعد نحو يومين في المجدل عاد كثير من أهل بيت طيما إلى بيوتهم يتفقدونها، ليجدوها وقد احترقت "عمدا"، ناهيك عمّا دمره القصف. شمّر أهل القرية عن سواعدهم ليطفئوا النيران وينقذوا ما يمكن إنقاذه.
"شاركت في إطفاء النار، نحضر ماءً من بئر مجاورة ونطفئ النار التي ما زالت مشتعلة، بيوتنا طينية وأسقفها خشبية، جميع الأسقف أكلتها النيران من الأعلى، كان الدخان ما زال يتصاعد منها، وبعض كروم العنب التي اختبأ فيها الناس مدمرة جراء القصف".
وذكر المبحوح أن العصابات الصهيونية قضت على كل شيء في القرية من بشر وحيوانات وبيوت .. "وجد أهل القرية جثتي عوض عيسى وأحمد عيسى في بيتهم وقد أطلقت عليهم النار. حتى عِجلا لنا، وجدناه مقتولا بالرصاص على باب البيت."
ويقول وليد الخالدي في كتابه "كي لا ننسى"، مستندا للمؤرخ الاسرائيلي بني موريس، إن قصفاً جوياً ومدفعيا في أواسط تشرين أول/ أكتوبر 1948 أدى إلى فرار عدد كبير من اللاجئين من قرية بيت طيما، وتم احتلال القرية في 18-19 من نفس الشهر.
اشتهرت القرية بزراعة اللوزيات والتين وإنتاج العسل. لم تُبن على أرضها مستعمرة إسرائيلية، بل يستغل الاحتلال الآن أراضيها في الزراعة. أشهر عائلاتها الكرد والمبحوح، ومن عائلاتها أيضا سلامة عيسى وصبّاح وسلمان وأبو لبدة وأبو سالم وعواد وجبريل وشومر والتلباني وشتات وغيرهم.
واعتمدت عائلة عبد الرؤوف المبحوح على الزراعة وتربية الحيوانات كمصدر رزق رئيسي. "كان أبي فلاحا يملك أرضا ويزرعها بالقمح وغيره، وكان يستأجر أراضي أخرى، ومصدر رزقنا الأرض والبهائم، لذا حرص على أن لا يتركها."
ويروي المبحوح "تغريبته" التي انتقل فيها إلى غزة مع والده محمد وإخوته عبد الحميد وعبد الحي وعبد المجيد، رافقهم أعمامه محمود وصالح وأحمد ولطيفة.
ويصف رحلته إلى غزة بالشاقة والقاسية بالنسية لفتى في الـ15 من العمر. "مشيت من بيت طيما إلى المجدل، ثم مشيت إلى غزة، أحيانا كنت أركب على بقرة من بقراتنا، وصلنا في يوم وليلة، المسافة ليست بعيدة إلى غزة."
في الطريق كانت نسوة يحملن أطفالا رضّعا ويمشين ببطء، الأطفال يصرخون، وأطفال آخران يمشون بتثاقل أو يحملهم آباؤهم، "هلكنا من العطش، أنقذنا بعض الفلاحين في الطريق".
كان بعض الناس يتقاسمون خبز "الشراك"، منهم من حمل بعض الطعام السريع من الزعتر والدّقة (قمح محمّص ومطحون مخلوط ببعض التوابل والملح)، وقليل من الماء.
تزوج المبحوح في غزة بُعيد النكبة من ابنة عمه فاطمة المبحوح، وله منها 12 ولدا وبنتان وله زهاء 100 حفيد وحفيدة. دمر الاحتلال بيته خلال الانتفاضة في العام 1987. واستشهد ابنه محمود في عملية اغتيال سرية نفذها الموساد الإسرائيلي في دبي عام 2010، كما استشهد ثلاثة من أحفاده خلال مقاومتهم للاحتلال في انتفاضة الأقصى.
لم يخلُ وجه عبد الرؤوف المبحوح من اليأس، لم تكن تخرج الكلمات من بين شفتيه بسهولة بسبب اللاجدوى التي اعترته بعد 68 عاما من الانتظار. "وماذا يفيد الحديث؟ هل سيعيد لنا بلادنا؟ منذ عشرات السنين ونحن نتحدث، البلاد لا تعود بكلام يتكرر كل عام، كله عالفاضي"، قال المبحوح بحسرة قبل أن يتوقف عن الحديث ويركب درجاته الكهربائية متوجها لرفع أذان المغرب.
وتقول احصائيات الأمم المتحدة 1949 إن 957 ألف فلسطيني (66% من مجموع الفلسطينيين) طردتهم اسرائيل من بيوتهم. وتقول الاحصائيات الأممية (2015) إن عدد اللاجئين المسجلين لديها بلغ 5 ملايين و149 ألفا و149 لاجئا في مخيمات اللجوء في الضفة الغربية وقطاع غزة ودول الجوار.